الجديد برس
بقلم / عبدالباري عطوان
عندما يقول الرئيس الأمريكي باراك أوباما في مقابلته المطولة مع مجلة “أتلانتيك” التي نشرتها الخميس، “أن الحروب والفوضى في الشرق الأوسط لن تنته حتى تتمكن السعودية وايران التعايش معاً، والتوصل إلى سلام بارد”، فإن هذا يعني أن هذه الحروب والفوضى، وحالة الحرب بالوكالة بين هاتين القوتين الاقليميتين العظميين (السعودية وايران) لا تدمر المنطقة فقط، وإنما تخدم اسرائيل.
في الماضي القريب، وقبل “الربيع العربي”، وصعود خطر الحروب والتقسيمات الطائفية، كانت الجملة المأثورة التي تتردد على السنة المسؤولين العرب والغربيين، وفي البيانات الختامية لمؤتمراتهم وزياراتهم للمنطقة، تؤكد أن استقرار منطقة الشرق الأوسط لا يتحقق إلا بحل الصراع العربي الاسرائيلي، الآن اختفت هذه المقولة كلياً، وحلت محلها مقولة الصراع العربي الايراني .
الرئيس أوباما، ومن خلال هذه المقابلة، أكد على مجموعة من الحقائق التي وردت على لسان مستشاريه يجب التوقف عندها ملياً لمعرفة العوامل الأساسية التي ترسم ملامح السياسة الأمريكية في المنطقة :
أولاً: الصراع السعودي الايراني أدى إلى نشوب حروب بالوكالة، ونشر الفوضى في كل من سوريا والعراق واليمن، أي أنه حمل هذا الصراع، وليس تدخلات بلاده العسكرية المسؤولية عن حالة الفوضى الدموية التي تسود المنطقة.
ثانياً: برأ الرئيس الامريكي إيران واتهم السعودية بشكل مباشر بنشر التطرف والإرهاب في المنطقة والعالم بنشرها للمذهب الوهابي، وضرب مثلاً بكيفية استخدام المال السعودي والخليجي في تغيير طبيعة الاسلام المعتدل في أندونيسيا،على سبيل المثال، التي تحجبت نساؤها من تأثيره، وقال ذلك صراحة لرئيس وزراء استراليا الذي التقاه في مؤتمر بالعاصمة الأندونيسية التي عاش ودرس فيها (أوباما) أربع سنوات، كما أكد في مقاطع أخرى أن من نفذوا هجمات 11 سبتمبر ليسوا إيرانيين.
ثالثاً: هاجم الرئيس أوباما بشدة الرئيس التركي رجب طيب اردوغان ووصفه بـ”فاشل وديكتاتور”، وأعرب عن اعتقاده بأن السعودية لا يمكن أن تتقدم مطلقاً باضطهادها لنصف تعداد سكانها، أي النساء، ولمح إلى مصر عندما قال أن على مصر والسعودية أن تتوقفا عن التسامح مع الفساد واضطهاد شعوبهما، وقمع معارضيهما إذا أرادت أن تحقق الرخاء والاستقرار لشعوبها .
رابعاً: اتهم أوباما دولاً “جانحة” من حلفاء أمريكا بمحاولة جر بلاده إلى حروب طائفية طاحنة لا مصلحة لها فيها، وأكد أن بلاده لن تنجر إلى هذه الحروب، ولن تتدخل عسكرياً في المنطقة التي لم تعد تصدر النفط فقط، وإنما الارهاب أيضاً، وقال أن بلاده ستنسحب منها وتركز على آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية حيث المستقبل.
خامساً: إعدام ثلاثة امريكيين في سوريا ذبحاً من قبل مقاتلي “الدولة الاسلامية” عام 2014 هو الذي دفعه إلى تغيير سياسته في سوريا، وإعطاء الأولوية لمواجهة هذا الخطر الذي يهدد بإشعال المنطقة والعالم، وهذا يعني الكثير في أي محاولة لفهم تردده في الدخول في حرب لإسقاط النظام السوري وانتحاره بذلك. *** بعد التمعن بهذه النقاط الخمس، يمكن القول أن حلفاء واشنطن القدامى في الشرق الأوسط وشمال افريقيا ربما يواجهون مرحلة من التجاهل، وربما التيتم بعد القرار الأمريكي بعدم خوض حروب من أجل الدفاع عنهم، وتركهم وحدهم في مواجهة ايران وحلفائها الروس والسوريين والعراقيين الشيعة، وقد يجادل البعض بأن أوباما، واضع هذه السياسة، سيختفي من المسرح السياسي بعد أقل من عام، وأن الإدارة الأمريكية المقبلة قد تقلبها رأساً على عقب، وهذا الجدل ينطوي جزئياً على بعض الصحة، ولكن الرهان على الجمهوريين وفوزهم ليس مضموناً أولاً، والإدارات تستمع إلى وصايا ونصائح ما قبلها ثانياً، وتعمل بها .
أو وإذا كانت هناك أخطار صراع طائفي في المنطقة، فإن المسؤول عنها الولايات المتحدة نفسها، فهي التي أدخلت مبدأ المحاصصة الطائفية إلى المنطقة بعد احتلالها للعراق، ووظفت الورقة الطائفية بعد ذلك عندما كانت تحشد الحشود العسكرية تحت ذريعة ضرب إيران لإنهاء طموحاتها النووية، وعندما توصلت إلى اتفاق نووي مع ايران بعد مفاوضات سرية، رحلت أساطيلها وغواصاتها وحاملات طائراتها، ولم يستطع حلفاؤها المخدوعين التراجع عن سياسات التحريض الطائفي ضد ايران، والآن ينصح أوباما السعودية بالحوار معها للوصول إلى “سلام بارد”.
ولا نعرف كيف سيحارب أوباما “الدولة الاسلامية” أو غيرها من “الجماعات الجهادية” في سوريا والعراق وليبيا واليمن، وهو الذي مارس كل أنواع “التهشيم” لحلفائه العرب “والمعتدلين” مثل دول الخليج وتركيا، ولكن ما يمكن استناجه أنه لا يعتمد على هؤلاء، ولا يقيم لهم أي وزن، ويضع كل بيضه في هذا الشأن في سلة روسيا وايران، وربما النظام السوري نفسه أيضاً، وهذا ما يفسر دعم حكومته للأكراد ورفضها عرضاً سعودياً خليجياً بإرسال قوات برية إلى سوريا تحت قيادة بلاده .
حذرنا في هذا المكان أكثر من مرة من مخاطر الفوضى الدموية في ليبيا التي جاءت نتيجة لتدخل حلف “الناتو” عسكرياً لإطاحة النظام فيها، ورغم السلبيات الكثيرة لهذه الفوضى وتدميرها للنسيج الشعبي الليبي، وإهدار ثرواته، وتهجير أكثر من ثلث أبنائه إلى دول الجوار التونسي والمصري، إلا أن لها إيجابية واحدة على الأ عنها الرئيس أوباما بـ”ندمه” الشديد على تدخل بلاده العسكري، وهاجم بشراسة حليفيه البريطاني والفرنسي، واتهمهما بالفشل في هذه الحرب . ***
الفوضى الليبية، ومثلما جاء في المقابلة، أجبرت أوباما على الاعتراف بأن الحرب في ليبيا كانت “خطأ”، وقال ذلك صراحة، واعترف بأن الذريعة التي استخدمت لتبريرها، وهي `عداد العقيد القذافي لمجزرة في بنغازي، لم تكن دقيقة، أي أنه اقترب جداً من قوله أنها كانت “مفبركة”، وأعاد التأكيد أن نتائج هذا التدخل العسكري في ليبيا الكارثية أوصلته إلى قناعة “أن أفضل شيء هو تجنب الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ولا يجب بأي شكل من الأشكال التورط في حروبهما.
نأمل أن يقرأ “الزعماء” العرب النص الحرفي لهذه المقابلة (36 صفحة) لعلهم يستخلصون العبر منها، وأبرزها أنهم، أو معظمهم، كانوا أدوات في المؤامرة الأمريكية لتفتيت بلدانهم ونهب ثرواتها، وإغراقهم في صراعات طائفية، وعندما تحقق هذا الغرض، طارت الطيور بأرزاقها، وتبخرت الأموال والودائع، وحررت ثورة النفط الصخري أمريكا من اعتمادها على البترول الخليجي، انسحبت من المنطقة وتركتها تواجه مصيرها.
لا نعتقد أن هؤلاء الزعماء سيأخذون العبر، ويستخلصون الدروس، ويتعلمون من أخطائهم بالتالي، لأنهم يصرون على ارتكاب الأخطاء نفسها، بل ما هو أكبر منها، ومحاولة استبدال اسرائيل بأمريكا كحليف يوفر لهم الحماية من العدو الايراني الجديد. رسالة أوباما ستصل حتماً إلى الشعوب التي لن تجد فيها أي جديد، لأنها لم تثق مطلقا ًبالحليف الأمريكي، ولكنها لن تصل لإلى الحكام، وإن وصلت فنشك أن يكون لها أي مفعول.