أفضى مخاض حلب إلى الرؤية المرسومة روسياً: نؤمّن السيطرة على المدينة ثم نذهب إلى مفاوضات جديدة. لا تعيش الأراضي السورية ابتداءً من اليوم مرحلة لم تختبرها سابقاً ولم يعوّل عليها شعبياً ودولياً، لكن الهدنة الجديدة هي الأنضج من سابقاتها، خصوصاً أنها تتزامن مع تحوّل نوعي في الميدان بعد معركة حلب ومفاعيلها السياسية، كما أنّها جاءت في وقت الإدارة الأميركية مكبّلة فيه، لتُعدّ أرضية خصبة لفرص تسوية قد تُسهم إدارة ترامب في صنعها… أو في إجهاضها لنعود مجدداً نحو الميدان
منذ التدخّل الروسي في الحرب السورية، تُحوّل مفاعيل الميدان إلى أروقة السياسة بعد كل مفصل عسكري. في نهاية شباط الماضي، كان الغطاء الجوّي الروسي بالتعاون مع الجيش السوري والحلفاء قد أسقط مرحلة عدم التوازن والتراجع على الجبهات إثر خسارة معظم محافظة إدلب واقتراب الخطر من الساحل.
هدنة روسية ــ أميركية، حينها، توّجت لقاءات كيري ــ لافروف الشهيرة لم تدم طويلاً بسبب الفخاخ المتعددة داخل الاتفاق، ليعود الميدان للاشتعال وتكون حلب قُبلة الكباش الدولي وحرب الإرادات الكبرى.
اليوم، بعد إنهاء معركة «الشهباء»، كان الخط البياني للتعاون التركي ــ الروسي في تطوّر إيجابي. فبالتوازي مع تطبيع العلاقات بين البلدين بعد إسقاط أنقرة طائرة السوخوي، جاءت تسوية المدينة لتوضح حجم التفاهمات بينهما. تصريحات مسؤولي العاصمتين كانت واضحة في ما يخصّ «ما بعد حلب»: إخراج المسلحين، فوقف إطلاق نار، فعودة للمسار السياسي. صحيح أنّ أنقرة كُسرت في حلب وخسرت أوراقاً مهمة بعد خسارة «عاصمة الشمال» لكنّ موسكو اختارتها شريكاً حيوياً دون الآخرين
لكتابة فصل جديد من التهدئة الميدانية وإطلاق الخطوط الديبلوماسية لوقف الحرب.
إذ بالتزامن مع اقتراب تسلّم الرئيس المنتخب دونالد ترامب مقاليد السلطة في واشنطن، تسارع العاصمة الروسية في رسم خطوط جديدة في إدارة الحرب السورية أملاً في دخول إدارة ترامب كعنصر مساعد رأت أمامها سقوط خيارات وأهداف الإدارة السابقة.
كل ذلك، شكّل حافزاً مهماً لموسكو لتنشيط قنواتها الإقليمية، وخاصة مع أنقرة وطهران، جنباً إلى جنب مع عمل عسكريّ منسّق في الميدان.
وأفرزت المعادلة الإقليمية الجديدة تفاهمات وتقاطعات مصالح، مهّدت لتغيير مفصليّ تمثّل بإخراج مدينة حلب من دائرة الصراع العسكري، وتوقيع «إعلان موسكو» الثلاثي، وصولاً إلى إعلان التوصل لوقف شامل لإطلاق النار في سوريا، أمس.
«الهدنة» الجديدة أُعلنت من عدة مصادر بالتوازي، فبينما أعلن الجيش السوري وقفاً شاملاً للأعمال القتالية بدءاً من منتصف ليل الخميس ــ الجمعة، خرج الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ليشير بدوره إلى نجاح الاتفاق ويكشف في الوقت نفسه عن موافقته على خفض عديد قوات بلاده في سوريا، مع التزام دعم دمشق في حربها على الإرهاب.
في المقابل، أعلنت أنقرة على لسان الرئيس رجب طيب أردوغان، أنها ستعمل مع موسكو على ضمان تنفيذ الاتفاق الذي يستثني الجماعات المصنفة دولياً على أنها «إرهابية» وهي «داعش» و«جبهة فتح الشام». فيما خرج المتحدث باسم «الجيش الحر» أسامة أبو زيد، في مؤتمر صحافي ليقدّم تفسيراً جديداً يختلف عن صيغة الاتفاق، ويقول إنه يستثني كلاً من «داعش» و«حزب الاتحاد الديموقراطي» وجناحه العسكري «وحدات حماية الشعب» الكردية من دون «فتح الشام».