الجديد برس – علي جاحز.. (الجزء الثاني)
ظهران الجنوب.. ضغط يمني أنتجَ وقف نار وجولة الكويت:
التصعيدُ العسكريُّ عالي الوتيرة الذي شهدته جبهات ما وراء الحدود عقب فشل جولة سويسرا الثانية كان استراتيجيَّ الانجازات وَتمثل في توغل متسارع ومستمر الوتيرة في داخل الأراضي السعودية في جيزان ونجران وعسير. هذا الأمر دفع بالمملكة إلى فتح قنوات تواصل مع قيادة أنصار الله، نتج عنها مفاوضات في مدينة ظهران الجنوب بعسير، بين وفد سعودي رفيع وبين وفد من أنصار الله برئاسة ناطق أنصار الله محمد عبدالسلام، وبحسب مراقبين، فإن تلك المبادرة السعودية تذكّر بمبادرة سابقة أنهت الحرب السادسة، غير أن محللين وسياسيين اعتبروها شعوراً سعودياً بالمأزق والورطة في اليمن ومحاولة للخروج منها بعيداً عن الأضواء وبعيداً عن التأثير الأَمريكي الذي بات السعوديون يدركون أنه يورطهم أكثر.
ونستطيع أن نقولَ إن الضغط الميداني على السعودية ربما أنتج مفاوضات سُمّيت بمفاوضات ظهران الجنوب التي بدورها اثمرت اتفاقَ وقف النار الذي عُرف يومها باتفاق ظهران الجنوب، وهو اتفاقٌ ينص على وقف شامل لإطلاق النار وتبادل أسرى ضمن مرتكزات بناء ثقة بين اليمن والمملكة.
بدأت تسري بعض بنود الاتفاق بشكل جزئي من خفض منسوب قصف الطيران في بعض المناطق وتبادل الأسرى ونزع الالغام من بعض المناطق، وتوقفت إلى حد ما الاعمال العسكرية في بعض جبهات ما وراء الحدود في بادرة حسن نية من قبل الجيش واللجان الشعبية، وهو ما لم تلتزم به السعودية التي قصفت سوق مستبا خلال الأَيَّـام الأولى من الهدنة وبدأت بعض الزحوفات من جهة ميدي عبر مجاميعَ من مؤيديها تم تدريبهم داخل المملكة.
وكان ناطق أنصار الله ورئيسُ وفدها المفاوض قد أدلى بتصريحات تحذر من استمرار الخروقات السعودية التي وصفها بأنها تهدد المشاورات، وقال “إن خروقاتٍ كالتي حصلت في ميدي أمس، قد تفشل التفاهمات”، مؤكّداً أن الجيش واللجان الشعبية سيردون بأكثر من ذلك في أية محاولات تصعيدية.
وكان من ابرز ما نتج عن اتفاق ظهران الجنوب هو وصول 116 أسيراً يمنياً إلى صعدة، مقابل تسليم حركة «أنصار الله» عشرة من أسرى الجيش السعودي، إضَافَةً إلى تبادل نحو 80 جثماناً بين الطرفين بعد ثلاثة أسابيع من الاتفاق الذي افضت إليه اللقاءات المباشرة بين مسؤولين سعوديين وآخرين من «أنصار الله» في ظهران الجنوب، وظهر من خلال تلك الصفقات أن الأسرى التي أفرجت عنهم، مؤكّداً أنها كانت قد اشترتهم من عملائها في الجنوب، بمعنى أنهم أسرى في جبهات الداخل، وهو ما اعتبر فضيحةً للسعودية وللموالين لها في الداخل.
لم تمر سوى ايام على سريان بعض مخرجات ذلك الاتفاق حتى ركبت على موجته الأُمَـم المتحدة التي ارسلت مبعوثها إلى اليمن اسماعيل ولد الشيخ احمد إلى صنعاء للتباحث حول امكانية احياء المسار السياسي بعد شهور من التصعيد العسكري المتواصل، وقالت مصادر سياسية يومها إن المبعوث إنما أتى إلى صنعاء ركوباً لموجة التفاهمات بين السعودية وأنصار الله في ظهران الجنوب، ورجّحت المصادر أن تحرك ولد الشيخ جاء بإيعاز أَمريكي الغرض منه توجيه مسار التفاوُض السياسي والتحكم فيه وأخذه بعيداً عن المسار الثنائي بين المملكة وأنصار الله.
وفي هذا الصدد كان عبدالسلام قد صرّح بأن اللقاءات في ظهران الجنوب هي ما سيحدد ملامح أي حوار مقبل؛ باعتبار أن الطرف السعودي هو المعني وصاحبُ القرار.
مسلسلُ مفاوضات الكويت.. فشلٌ بحجم التفاؤل:
بالرغم من ادراك قوى صنعاء تلك الخلفيات وراء تحرك المبعوث الدولي على موجة نجاح مفاوضات ظهران الجنوب في التوصل لاتفاق وقف إطلاق نار شامل، إلا أن جولتَه التي بدأها من صنعاء ثم الرياض ثم الكويت أثمرت إطاراً للترتيب لجولة الكويت التي عُقدت في وقت لاحق في مسلسل طويل من المباحثات والأخذ والرد والأمل والتفاؤل والابتعاد والاقتراب من الحلول، وكادت تصل في نهايتها إلى اتفاق لولا تدخل المخرج الأَمريكي عقب زيارة بن سلمان إلى واشنطن التي كانت بمثابة الرصاصة التي قتلت تفاهمات ظهران الجنوب ومن ثم أجهزت على جولة الكويت برُمّتها.
بدأت جولة الكويت من تشكيل لجنة التهدئة والتنسيق من كُلّ الأَطراف (الوفد الوطني – وفد الرياض). فيما واصل المبعوث الدولي ولد الشيخ التشاور مع الأَطراف حول اجندة المشاورات، في تلك الاثناء كان الوفد الوطني (أنصار الله والمؤتمر الشعبي العام) يصرون على أن تكون هناك ضمانات لنجاح المشاورات ولتنفيذ مخرجاتها بعد تجارب الفشل السابقة التي يرون أنها كافيةٌ للحكم مسبقاً على ضعف الأُمَـم المتحدة ومبعوثها.
خلال تلك المرحلة كان رئيس وفد أنصار الله قد أكّد أنه لم تقدَّم بعد أجندة واضحة بخصوص جدول أعمال المفاوضات، ولا مشروع واضح المعالم لوقف إطلاق النار أيضاً. وأضاف أن مشاوراتِ الكويت قد تلقى مصير مشاورات جنيف السابقة، إن لم يكن هناك إرَادَةٌ للسلام.
وفي ما اعتبر حينها محاولات حرف مسار الجهود الرامية لإحياء المفاوضات كان ولد الشيخ يدلي بتصريحات غير متفق عليها مثل إعْلَانه أنه اتفق مع أنصار الله على النقاط الخمس لتكون أَسَـاساً للمشاورات وهي نقاط استسلام، كما وُصفت يومها، وفي رد على ذلك أكد عبدُالسلام أنه لم يُتَّفَق على تلك النقاط وأنها جاءت من طرف ولد الشيخ فقط.
مؤشرات عدة كانت تنذر بفشل الوصول إلى الكويت، غير أن الكويت أرسلت رسالة طمأنة لأنصار الله، ونشرت وسائل إعْلَامية عن مصادر مطلعة يومها أن أمير الكويت بعث برسالة طمأنة إلى السيد عبدالملك الحوثي يؤكد له أن بلاده حريصة على انهاء الوضع في اليمن من موقعها كمراقب وليس كمشارك في العدوان على اليمن، وبحسب المصادر فإن الرسالة حملت يومها تأكيداتٍ من الكويت أنها لم تشارك في تحالف العدوان إلّا من منطلق اتفاقية التعاون المشترك بين دول الخليج وتقف قواتها داخل حدود المملكة وأنها لم تشارك بالطيران، مبدية حرصَها على إنهاء الصراع في اليمن من منطلق أنها دولة ذات تعدد طائفي ويهمها أن لا تصل عدوى تلك الصراعات اليها، وهي ما شجّعت قوى صنعاء أن تذهب إلى الكويت بناءً على تعهدات أوحت بها رسالة الأمير الكويتي بالجدية في انجاح المشاورات برعايتها.
بقيت مسألة الجدية في وقف النار تشكل عقبة كؤوداً في طريق نجاح انعقاد المشاورات، غير أن ذلك لم يدم طويلا، حيث رجّحت القوى الوطنية بصنعاء الذهابَ للمفاوضات قبل تثبيت وقف النار، على اعتبار أن لا فرق في انعقاد المشاورات في ظل استمرار الحرب والحصار أَوْ توقفهما، فالهدف هو الوصول إلى حل شامل يُنهي الوضع برُمَّته، وكان ذلك الموقف هو اثبات لنيتها في أن ينجح المسار السياسي وحرصها على السلام، فيما عُــدَّ ذلك امتحان لجدية الموقف الدولي وموقف الطرف الآخر من السلام.
انطلقت الوفود إلى الكويت منتصف ابريل الماضي، وكانت تلك خطوة مهمة تركت تفاؤلا في اوساط الشارع اليمني الذي كانت انظاره متجهةً صوب الكويت طوال اشهر ثلاثة هي فترة المشاورات في مرحلتها الأولى، إضَافَة إلى أسابيع مفصلية هي مرحلتها الثانية.
الجولة الأولى:
انطلقت مشاوراتُ الكويت بجلسة مفتوحة بثت على الهواء مباشرة، تلتها جلسة مغلقة شهدت نقاشات افضت إلى تشكيل لجان مشتركة متخصصة في القضايا الأَسَـاسية للمشاورات، وهي اللجنة الأمنية والعسكرية واللجنة الإنْسَانية والأسرى ولجنة التهدئة والتنسيق ثم اللجنة السياسية التي تتلقى ما تم التوصل إليه في كُلّ لجنة من اللجان السابقة وتبني عليه اتفاقا.
النقاشات استمرت بشكل سري، أو كما يُفترَض أنه سري، عدا تسريبات كانت ترسل إلى بعض القنوات التابعة للسعودية وقطر والامارات، كانت واحدةً من الأسباب الرئيسية في توتر الاجواء بين المتفاوضين، تضاف إلى المؤتمرات الصحفية التي كان يعقدها المبعوث الدولي ويظهر فيها منحازاً لطرف الرياض ومتبنّياً لقضاياه وأُطروحاته، الأمر الذي بدوره أسهم في توتير الاجواء وتعكير مسار المشاورات.
في الأَيَّـام الأولى من الجولة الكويتية، التقت الوفود بأمير الكويت الذي اكد لهم أن بلادَه جادة في انهاء الازمة وتوصل الأَطراف إلى حل شامل وأنه عازم على أن لا مغادرة للكويت قبل التوقيع على حل، وكانت هذه التأكيدات الأميرية تبعث على التفاؤل أيضاً وأسهمت في تحريك الجلسات بوتيرة عالية في الأسابيع الأولى.
لجنة الأسرى والشئون الإنْسَانية هي اول لجنة تصل إلى ترتيبات عملية وسهلة في الجانب الإنْسَاني، حيث توصلت إلى أن يتم تبادل جميع الأسرى في غضون أسبوع ثم أسبوعين، غير أن وفد الرياض لم يكن يمتلك حق التواصل مع قادة جبهات الميدان الذين رفضوا التعاطي مع ما تم التوصل إليه في الكويت بخصوص تبادل الأسرى وادخال المساعدات، الأمر الذي كان بمثابة فشل لملف الأسرى.
في ذات الوقت كانت صفقات تبادل أسرى تجري ميدانيا بعيداً عن تنسيق الأُمَـم المتحدة وعن مشاورات الكويت، حيث عقدت أكثر من عشر صفقات في كُلٍّ من تعز والبيضاء ولحج وشبوة ومأرب والجوف بين السلطات في صنعاء وبين قيادات المرتزقة الموالين للتحالف، الأمر الذي عُدَّ محرجاً للأُمَـم المتحدة ومبعوثها الذي فشل حتى في الادلاء بتصريح يكشف الطرف الذي افشل ملف الأسرى في الكويت، وهو ما وصف بأنه تواطؤ أُمَـمي.
في الجانب العسكري والأمني لم يتم التوصل إلى صيغة متفق عليها، وهو الحال بالنسبة لجانب إيقاف النار والتهدئة، حيث كانت ترفُضُ القوى الميدانية الموالية للعدوان التجاوب مع لجان التنسيق والتهدئة المشكلة من الكويت، وهو أيضاً ما تستر عليه المبعوث الدولي والأُمَـم المتحدة.
وكانت قد تقدمت الوفود برؤى للحل في وقت لاحق، وأكّدت مصادر أُمَـمية أن الوفد الوطني القادم من صنعاء تقدم برؤية شاملة ومنصفة ومنطقية للحل السياسي، فيما لم يقدم طرف الرياض أية رؤية عملية، واكتفى فقط بتكرار طلبات الاستسلام وإعادة ما كان يسمى بالشرعية إلى صنعاء وتأمينها وتمكينها من السلاح، وهي رؤية اثارت سخرية سفراء الدول العشر الذين كانوا يراقبون المشاورات عن قُرب.
رؤية الوفد الوطني التي نصت على ضرورة أن يكون الحل على مراحل ثلاث يتزامن فيها الترتيب السياسي مع الترتيب الأمني، وذلك بتشكل سلطة انتقالية بما فيها مُؤَسّسة الرئاسة والحكومة بالتزامن مع تشكيل مجلس عسكري وأمني، يعملان لمدة عامين على ترتيب الوضع الداخلي وايقاف العدوان والحصار ورعاية حوار وطني بين المكونات الأربعة من حيث انتهى المبعوث السابق جمال بن عمر، مهمته أن يصل بالبلد إلى انتخابات نيابية ورئاسية واستقرار سياسي، وهو ما نال إعجاب المجتمع الدولي والمراقبين، ولكنه اثار حفيظة وفد الرياض الذي انسحب من المشاورات عدة مرات إحداها بإيعاز قطري.
الانسحاباتُ المتكررة من قبل فريق الرياض كان مؤشراً على امتعاض السعودية وقطر وتبدل في مواقفها من المشاورات، الأمر الذي انتج جواً متوتراً منع من انعقاد أية جلسات مباشرة طيلة الفترة المتبقية، وبحسب مصادر دبلوماسية فإن السفير الأَمريكي كان يمارس دورا سريا في ادارة تحركات وفد الرياض بهدف تعقيد الامور.
وهو ما تزامن مع جولة ولي ولي العهد السعودي إلى واشنطن التي وُصفت بأنها هدفت إلى افشال مشاورات الكويت ونيل الضوء الاخضر للعودة للتصعيد من قبل الولايات المتحدة، وهو ما يحيلنا إلى اتفاق ظهران الجنوب الذي كانت تسريبات تقول إنه جاء بمبادرة من قبل تيار محمد بن نايف ورغبة منه في انهاء الحرب بعيداً عن رغبة أَمريكا التي تجر المملكة إلى مستقبل مجهول، ومن هذا المنطلق وُصفت زيارة بن سلمان إلى أَمريكا بانها سعي لإفشال اتفاق ظهران الجنوب وتقديم تعهدات لأَمريكا بالحسم العسكري.
السعودية التي رجعت لتسلك مسلكاً آخرَ، قدمت في الأسبوع الأَخير من الجولة الأولى من مشاورات الكويت مقترحا وُصف بالتعجيزي، وهو أن يتم توقيع صيغة اتفاق يعده المبعوث الدولي (مقارباً لرؤية الوفد الوطني) على أراضيها باعتبارها هي مَن يرعى السلام، وهو ما ازعج الكويت والوفد الوطني، وبحسب ما كان يقال يومها فإن موافقةً مبدئيةً من الوفد الوطني على أن يتم التوقيع في مكة المكرمة أبلغت بها السعودية، غير أن السعودية عادت لتطرح أن يتم توقيع اتفاق عسكري وأمني أَوّلاً ثم اتفاق سياسي. وهو ما يعني التوقيع على الاستسلام وتسليم الأرض للتحالف أولاً، الأمر الذي قوبل بالرفض.
رفعت الجولة الأولى من مشاورات الكويت على أن يتم العودة بعد رمضان، وهو ما لم يتم إلّا بصعوبة بالغة فيما بعد، رافق ذلك تصعيدٌ عسكريٌّ كبيرٌ من طرف تحالف العدوان على اليمن، مما اوحى بأن لا نية حقيقية في انجاح مساعي الكويت.
يُذكر أن إحاطة ولد الشيخ خلال مفاوضات الكويت لم تكن شفافةً ولم تتضمن توصيفا حقيقيا لمجريات المشاورات ولم تشر إلى الطرف المعيق، بل تضمنت اتهاماتٍ للأَطراف الوطنية في صنعاء وتجاهلت الأَطراف الأخرى وانتهاكات العدوان وحلفائه المتكررة، ولم تكن واضحة فيما يخص الوضع الإنْسَاني.
ولعل الحدث الأبرز الذي وقع خلال تلك المشاورات هو فضيحة الأُمَـم المتحدة التي تراجعت عن وضع اسم السعودية في القائمة السوداء نتيجة قتل الأطفال في اليمن، متذرّعة بأن السعودية هدّدتها بقطع المساعدات المالية، الأمر الذي كشف حقيقة موقف الأُمَـم المتحدة الضعيف أمام السعودية التي اتضح أنها تعوّل المُؤَسّسة الدولية العتيدة.