الأخبار عربي ودولي

كنوز حلب في قبضة المعارضة: «محفوظةٌ» أم «مسروقة»؟

الجديد برس 

فضلاً عن الدمار الذي طاول مدينة حلب القديمة، ثمّة كنوز نفيسة نُقلَت من المدينة في خلال سيطرة المجموعات المسلّحة عليها «بهدف حمايتها» وفقاً للجهة المعارضة التي نقلتها. على رأس تلك الكنوز يأتي منبر الجامع الكبير، ومخطوطات المكتبة الوقفيّة. وتشير أحدث المعطيات إلى أن المنبر ما زال موجوداً في ريف حلب، أما المخطوطات فلا معلومات موثوقة حولها

صهيب عنجريني

لا تقتصر الخسائر التي لحقت بتراث مدينة حلب القديمة على الدمار الذي طاول نسيجها العمراني البديع، بل تضاف إلى ذلك خسائر أخرى لم يُسلَّط عليها الضوء كما يجب. ويبرز من بينها احتراق معظم محتويات المكتبة الوقفيّة واختفاء ما لم يحترق من مقتنياتها، وهو في حدّ ذاته كنزٌ يحوي قرابة خمسة آلاف مخطوطة نفيسة انضمّت إلى منبر الجامع الأموي الكبير وباب الوالي الأثري في رحلةٍ نحو المجهول.

ويحظى المنبر بدوره بقيمةٍ رفيعة لا تنبع مما يمثّله من رمزيّة فحسب، بل من فرادته التّاريخيّة أيضاً. وإذا كان مكان هذه الكنوز غير معلومٍ على وجه الدّقّة، فإنّ الأمر لا ينطبق على الجهة التي استحوذَت عليها ونقلها «بهدف حمايتها». بدأت رحلة الكنوز المذكورة في أيّار عام 2013 حيث عمدت جهة معارضة تسمّى «الجمعية السوريّة للحفاظ على الآثار والتراث» إلى تفكيك المنبر ونقله والمخطوطات والباب، بدعمٍ من «لواء التوحيد» البائد. وتضم «الجمعيّة» المذكورة أعضاءً أكاديميين يتوزّعون بين فرنسا وبلجيكا وإيطاليا واليابان، فضلاً عن أعضاء سوريين يتوزعون بين مناطق سيطرة المجموعات المسلّحة وتركيا. (قائمة بالأسماء على موقع جمعية حماية الآثار السورية).
كانت المكتبة الوقفيّة قد تعرّضت لحريق كبير من جرّاء الأعمال الحربيّة، كذلك تهدّمت مئذنة الجامع الأموي وسط تبادل طرفي المعارك الاتهامات بالمسؤوليّة عن الحادثتين. أدى حريق المكتبة الوقفيّة إلى خسارة محتوياتها من الكتب، وهي وفقاً لبعض المصادر كانت تضمّ قرابة 35000 عنوان. أما المخطوطات، فقد نجت لأنّ «الحريق لم يصل إلى مستودع المخطوطات» وفقاً لبعض المصادر. فيما تذهب مصادر أخرى إلى أن المخطوطات نجت بفضل «حفظها في الحجرة المفرّغة من الهواء» (وهي حجرة مخصّصة لمعالجة المخطوطات وترميمها عند اللزوم) وفقاً لمصادر أخرى. المحطّة الأولى للكنوز بعد نقلها كانت المنطقة الصناعيّة في الشيخ نجّار، قبل أن تتضارب الأنباء لاحقاً في وجهتها التالية. حظي المنبر بواجهة الحديث الإعلامي فترةً قصيرة، خلافاً للمخطوطات التي عُتّم عليها. لعبت العلاقة القويّة بين المعارضة وأنقرة دوراً كبيراً في رواج رواية مفادها أن المنبر قد نُقل إلى تركيا أسوةً بآلاف المصانع التي فُككت ونقلت إليها بالفعل. على أرض الواقع، كان المنبر قد حُرِّك من الشيخ نجّار مطلع عام 2014. وتفيد المعلومات التي وصلت إليها «الأخبار» بأنّه «قد تنقّل بين ثلاث محطات، قبل أن يستقرّ أخيراً في موقعه الحالي». وخلافاً للمتداول، يمكن التأكيد أن المنبر لم يغادر الأراضي السورية، وهو موجود داخل الحدود الإداريّة لمحافظة حلب. وتشير معظم المعطيات المتوافرة إلى منطقة خان العسل في ريف حلب الغربي بوصفها مكان وجود المنبر حتى الآن، ويُرجّح وجود «باب الوالي» مع المنبر، فيما يصعب الجزم بمصير المخطوطات. وفي خلال رحلة التقصّي عن مصير الكنوز، حاورت «الأخبار» مصادر متنوّعة الاتجاهات والاختصاصات، واختلفت هذه المصادر في تقويم دوافع الجهة التي نقلتها. يرى البعض أنّ «الإجراء كان وقائيّاً بحتاً»، ويستشهد هؤلاء بقيام الجهة ذاتها بـ«إجراءات حفظت أجزاءً من الجامع الأموي، مثل المزولة الشمسيّة والمحراب، بفضل بناء جدران حولها». لكنّ آراءً أخرى تقول إنّ «تلك الإجراءات لم تُتخذ إلا تحت وهم أنّ المعارضة ستحتفظ بالسيطرة على الجامع، وستسيطر لاحقاً على مدينة حلب بأكملها».

لعبت علاقة المعارضة مع أنقرة دوراً في الترويج لأن المنبر نُقل إلى تركيا

وتذهب هذه الآراء إلى أنّ «المعارضين كانوا يضعون خططاً تفصيليّة لشكل الاحتفال الذي سيقيمونه عندما يسيطرون على حلب، ويعيدون المنبر إلى مكانه ليشهدَ إلقاء أوّل خطبة دينيّة في الجامع بعد التحرير». وبغض النظر عمّا سبق، فإنّ المصير المجهول الذي يكتنف مستقبل الكنوز المذكورة ما زال سيّد الموقف اليوم، وتُراوح المخاطر المحدقة بها ما بين ضرر يصيبها من جرّاء المعارك التي تحتدم بين وقت وآخر في الريف الغربي، وبين محاولة تهريبها خارج الأراضي السوريّة، أو تعرّضها لأذى مقصود ومباشر. وإبّان معارك أحياء حلب الأخيرة، كانت «الأخبار» قد طرحت مجموعة أسئلة على ناشط معارض واكب تفكيك المنبر، وكان من بين الإجابات اللافتة التي قدّمها قوله: «أكيد منحرقو ولا منرجعو للشّبيحة». وتبرز مجموعة أسئلة قانونيّة بحتة في ما يتعلّق بالكنوز المذكورة، ولا سيّما أنّها جزء من محتوى مسجّل على لوائح اليونسكو للتراث العالمي. وتجدر الإشارة إلى أن الجهة القيّمة على الكنوز اليوم معلومةٌ تماماً بالنسبة إلى منظمة اليونسكو. وفي أيار 2014 كانت الأخيرة قد وجّهت دعوةً إلى تلك الجهة إلى جانب عدد من «الجمعيّات المعارضة» للمشاركة في اجتماعات تحت عنوان «تضافر الجهود الدولية من أجل الحفاظ على تراث سورية الثقافي – اجتماع دولي للخبراء» في مقرها الدائم بباريس، لكنّ «الجمعيات» أصدرت بياناً يلوّح بمقاطعة الاجتماعات لأسباب سياسيّة بحتة. (اطلع على البيان على موقع جمعية حماية الآثار السورية).
ويؤكد المدير العام للآثار والمتاحف مأمون عبد الكريم أنّ «هناك جهوداً تُبذل للحفاظ على المنبر وإعادته إلى مكانه الطبيعي». يقول عبد الكريم لـ«الأخبار» إنّ «الجهود مستمرّة، وفي خلال أسابيع تنجلي الصورة». يعتذر عبد الكريم عن عدم الخوض في أي حديث تفصيلي، ويقول: «لست مخوّلاً الكشف عن أي تفصيل، والمهم الآن أن يعود المنبر جزءاً من الجامع الأموي الذي هو بدوره جزء من ممتلكات الشعب السوري والتراث الإنساني بالعموم».

المكتبة الوقفيّة

يعود إحداث المكتبة الوقفيّة إلى عام 1926 في مقر المدرسة الشرفية. وضُمت إليها تباعاً كلٌّ من المكتبة الخسروية، مكتبة التكية المولوية، مكتبة المدرسة الكواكبية، مكتبة الزاوية الوفائية، مكتبة المدرسة المنصورية، مكتبة المدرسة الإسماعيلية، مكتبة المدرسة الأحمدية، مكتبة المدرسة العثمانية، مكتبة المدرسة الصديقية، ومكتبة الزاوية الرفاعية. عام 1992 نُقل قسم كبير من مقتنيات المكتبة الوقفية إلى مكتبة الأسد في دمشق، قبل أن يُتخذ قرار بإعادة إحيائها إبان احتفالية «حلب عاصمة الثقافة الإسلامية». أُنشئ مقر جديد للمكتبة إلى جوار الجامع الأموي الكبير مع مراعاة أهم المعايير، بخزائن كتب ثابتة تتسع لنحو 70000 كتاب، وخزائن متحركة للمجلات والدوريات، فضلاً عن قاعة مطالعة تتسع لـ 150 باحثاً، وصالة متعددة الاستخدامات تتسع لـ 170 شخصاً، مع إمكانية الترجمة الفورية لأربع لغات. كانت المكتبة تضمّ أيضاً متحفاً لعرض المقتنيات من المخطوطات والأدوات الفلكية والنحاسيات واللوحات القماشية الأثرية واللقى الأثرية التي وجدت في أثناء ترميم الجامع الكبير. وهذه بدورها مجهولة المصير اليوم.


المنبر

يعود تاريخ صنع المنبر إلى عام 1326 (العهد المملوكي). وهو مصنوع من خشب الأبنوس وخشب الصنوبر والجوز، ومطعّم بقطعٍ من العاج والصدف وخيوط الفضة. ارتفاع المنبر نحو ثلاثة أمتار ونصف متر، وعرضه متر، وله عشر درجات. خضع المنبر لعمليات ترميم دقيقة إبّان الاستعداد لاحتفالية حلب عاصمة الثقافة الإسلاميّة (عام 2006)، حيث عُزل عن الرطوبة وحُميَ من السوس والحشرات بموادّ خاصة، وعُوِّضَت بعض الأجزاء المفقودة. وتسود روايةٌ خاطئة مفادُها أنّ المنبر الحالي مصنوعٌ عام 1168 في زمن نور الدين زنكي، وأنّه توأم لمنبر آخر في الجامع الأقصى. والواقع أن المنبر الزنكي كان قد احترق في عام 1285، وصُنع المنبر الحالي ضمن عملية ترميم كاملة للجامع في خلال تبعيّة حلب لحكم الملك الناصر (محمد بن قلاوون).

نقلا عن جريدة الاخبار