الجديد برس : رأي
صلاح الدكاك – صحفي واعلامي يمني
قال أحد الأصدقاء متهكماً: (نريد احتلالاً نداً لنا ويضاهي ـ على الأقل ـ نصف عمرنا الحضاري.. من المعيب والمهين لفكرة الاحتلال أن نسمِّي عربان السعودية والإمارات احتلالاً..).
الحقيقة أن هذه الدمى النفطية ليس بمقدورها أن تتحرك بذاتها ولذاتها، الآن ولا سابقاً ولا مستقبلاً، لولا أصابع المخرج الأمريكي ومساعده البريطاني التي بدأت تتكشف عياناً لغير البصيرين، وباحتراق دُماها تماماً لن يعود بوسعها التواري، وسيغدو اشتباكنا معها وجهاً لوجه وبلا برزخ.
على غرار سيدي الحلاج، وفي سياق مختلف لمضمون عبارته، أقول: (والله ما في عباءة بني سعود ونهيان وثاني إلا أمريكا الامبريالية والصهيونية العالمية).
ما الذي يمكن أن يجنيه غلمان الإمارات ـ على سبيل البسط ـ من احتلال سقطرى سوى تربية الأرانب واقتناء الطيور النادرة والتخييم حول أسياخ الشواء؟!.. على أن مليارات الدولارات التي تلتهمها أحشاء ترسانة العدوان على اليمن، لا تستهدف ـ بالقطع ـ إدخال البهجة إلى نفوس غلمان العمارات المتحدة، أو تمكينهم من شرفة مقمرة في (قلنسيا) تطل على المحيط الهندي شرقاً والبحر العربي غرباً.
إن شرفة بحرية رحبة كهذه لا تليق بغير مشاة البحرية الأمريكية الذين يبتلع التنين الأصفر (الصيني) رصيد بلدهم المطلق من الهيمنة على السوق وريادة سدة النفوذ الاقتصادي العالمي، بحيث توشك سياسة تسليع الحرب وتصديرها إلى مفاصل الخارطة الأكثر حساسية، أن تكون النشاط التجاري الأوحد للولايات المتحدة، بعد أن كانت أحد أبرز مناشطها إبان مجد الواحدية القطبية المتداعي في الراهن.
لا غنى للإدارة الأمريكية من أن تحكم قبضتها على الشريط البحري الممتد من آخر نقطة في بحر العرب وصولاً إلى آخر نقطة في البحر الأحمر، بأرخبيلاته العائمة وتخومه البرية في العمق اليمني، وقد خمَّنت بدءاً أن بمقدورها تحقيق ذلك دون كلفة تذكر، عبر مشروع (الأقلمة السداسية).
ولما أجهضت ثورة الـ21 من أيلول مشروعها هذا، توسَّمت أن بمقدورها بلوغ غايتها بالتلطي خلف يافطة (تحالف عربي لدعم الشرعية) يفضي بالنتيجة ـ من خلال عدوان عسكري ـ إلى تكويم الخارطة اليمنية في قبضتها، فتكون بذلك قد وضعت (الصين + إيران) تحت رحمة نيرانها كأمر واقع، ودون أن تثير حفيظتيهما حد اعتقادها.
كان المخطط يقضي بتطويق المثلث المائي من ظهيره البري بإسناد بحري محدود وغير فج، مراعاة لمحاذير الملاحة البحرية (الصينية الإيرانية)، وعلى خلفية الإخفاقات المتلاحقة المريعة لزحوفاتها البرية، لا سيما في ميدي شمال غرب العاصمة وسواحل المخا ـ ذوباب ـ باب المندب غرباً؛ تهدد الإدارة الأمريكية اليوم في ما يشبه المكاشفة الصريحة بنيتها شن هجوم بحري واسع للاستيلاء على مدينة الحديدة ومينائها.
الرغبة الأمريكية في احتلال المدينة وشريان الحياة اليمنية الأخير، قائمة ومؤكدة، لكن القدرة على إنفاذ هذه الرغبة الآثمة، بمأمن من أعراض جانبية فادحة مصاحبة للاجتياح، تبقى موضع شك، والأرجح أنها غير متوافرة لـ(واشنطن) لجملة أسباب أبرزها إدراكها بالمراس والتجربة نجاعة سلاح البحرية اليمنية في مواجهة أحدث البارجات وكفاءة أفرادها في التوغل بحراً والاشتباك وجهاً لوجه مع بحرية العدو في العمق المائي، الأمر الذي لا يمكن معه ضمان معركة خاطفة زمنياً وضيقة النطاق، على نحو ما تصبو إليه واشنطن.
لا ريب أننا نواجه المشروع الأمريكي في مجمل خنادق وبؤر الاشتباك البرية، غير أن الاشتباك بحراً ـ على وجه الخصوص ـ هو اشتباك مباشر مع أمريكا ذاتها، وفي حال جازفت في خوضه فإن المعركة لن تكون معركتنا وحدنا، وسيجد العالم نفسه في أتونها طوعاً أو كرهاً تحت ضربات عصا لا مناص من أن ينشق لها بحر العلاقات الدولية إلى أكثر من فِلقٍ، فهل هذا هو ما تريده أمريكا وتجرؤ عليه؟!
إنها حرب وجود كما أوجز الزعيم جمال عبدالناصر قديماً، وحدود الأطراف المنضوية فيها بروزاً أو مواربة، هي حدود وجودهم، لا حدود خرائط أقطارهم، وهي حدود تطلعاتهم المشروعة وغير المشروعة، لا حدود حاجاتهم الماسة إلى متنفسات عقارية وشوالات قمح.. وعلى هذا المنوال لا يمكن فرز عربان البترودولار بوصفهم وجوداً، بل صدى لوجود أمريكي يسعى لابتلاع كل وجود حر كريم فاعل مستقل، وعلى المنوال ذاته فإن دفاعنا عن وجودنا الجلي وتطلعاتنا المشروعة يغدو دفاعاً عن كل الوجود وكل التطلعات المستهدفة بالقرصنة الأمريكية.
يتعين على الشعوب والبلدان والأنظمة الحرة أن تعي هذه الحقيقة، لا لتعفي اليمنيين من مؤونة المعركة، وإنما لتدل على أن وجودها استحقاق فطري إنساني أصيل، وليس هِبةً لطفرة نفطية كما هو حال عربان البترودولار، ولا هبةً للسوق كما هو حال الصين وروسيا، ولا هبةً لمشروع نووي سلمي أو عسكري كما هو حال إيران.
إننا ندافع عن وجودنا الحر الكريم بكل ما نملك، لأنه أثمن ما نملك.. تلك هي مقاربتنا للمعركة وحدودها وسقفها الزمني.