الجديد برس – مقالات – رفعت سيد أحمد
اندلعت النار في البيت الخليجي، ولم تطفأ بعد، ثوب الأشقاء رعاة الإرهاب في المنطقة الذي أسموه بـ (الثورة) يتمزّق ويشتعل، وحتى إن أطفئت نيرانه بشكل (أميركي) أو آخر، فإنه شراراتها وجمراتها، لن تنمحي آثارها، وستظل النار تحت الرماد، تنتهز الفرصة لتشتعل مجدّداً، وسيكون اشتعالها في كل مرة جديدة أشدّ وأقسى! ترى لماذا؟ وما هي دلالات هذا الزلزال الذي جرى؟ وإلي أين تتّجه بنا وقائعه المُتسارعة؟ هل هي الحرب بين قطر وأخواتها الخليجيات وبزعامة السعودية؟ أم هي المصالحة.. والعودة إلى نقطة الصفر؟ دعونا نفصّل قليلاً:
أولاً: في القرآن الكريم آية شديدة البلاغة والدّقة، تنسحب على حال دول الخليج المتصارعة اليوم والتي كانت تقود حروب الفوضى والدم في سوريا والعراق وليبيا ومصر واليمن، خلال السنوات الست الماضية، وتحديداً ثلاثي (قطر – السعودية – الإمارات) الآية تقول: (ذُقْ إنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الكَرِيمُ) [الآية 49 من سورة الدخان]، والتي قيل أنها نزلت في أبوجهل (عمرو بن هشام) أحد أعتى كفّار قريش، وأشدّهم إيذاء للرسول وللمسلمين والذي كان يصف نفسه بأنه (الأعزّ الأكرم) وبأنه بين جبليها (أي مكة) لا أعزّ منه ولا أكرم ” فنزلت الآية الكريمة فيه، آية وعبرة، و”ذق ” هنا مقصوداً بها تعذيب الله له عقاباً على أذاه للرسول وللمسلمين، ومن الروايات أيضاً أنه عندما قُتل في (بدر) شرّ قتلة قال وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، وابن مسعود يقف فوق صدره مكبّراً: (لقد ارتقيت مرتقى صعباً يا رويعي الغنم وسأل قائلاً: لمن الدائرة اليوم؟ قال ابن مسعود: لله ولرسوله).
هذه الدول والمشيخيات الخليجية، مارست في سلوكها السياسي في سنوات الربيع العربي (2011-2017) ما مارسه أبوجهل في مكّة، حين دعموا الإرهاب والتكفير والقتل للمسلمين باسم الثورات والدين (وهم براء من هكذا سلوك)؛ لقد أغدقت دول الخليج الثلاث (قطر والإمارات والسعودية) من الأموال والأسلحة ما يقدّر في احصاءات دولية محايدة بأكثر من ثلاثمائة مليار دولار، لنشر الثورات الزائفة والديمقراطية العرجاء، وهم أصلاً لا يعرفون فى حياتهم السياسية أي معنى للديمقراطية، فجلّهم ملكيات وراثية فاسدة!! وفضلاً عن تلك الأموال كان الابتزاز الأميركي والغربي وتجّار السلاح الذي اقترب من 500 مليار دولار وآخرها صفقة ترامب مع السعودية، كل هذه الأموال، ذهبت لقتل وتدمير الدول والجيوش والشعوب المُسالمة؛ وخلقت جماعات إرهابية مسلّحة تنتشر الآن في كافة أنحاء العالم، ولعبت (الفتوى الوهّابية الداعية للتكفير والقتل والتي هي امتداد فكري طبيعي لثقافة ودين أبوجهل !) دوراً رئيسياً في ذلك.
اليوم تتصارع تلك الدول مع بعضها البعض لأسباب تافهة، خاصة بين “شركاء الأمس”، إلا أنها سرعان ما تتحوّل إلى أسباب رئيسية مع صعود الجيل الأميركي الجديد لحكم السعودية والإمارات (جيل محمّد بن زايد ومحمّد بن سلمان)، فتتدحرج كرة الثلج (أو الدم بمعنى أدق) وتصبح تلك المشيخيات غير الديمقراطية على أبواب صراع مسلّح داخلي، عندئذ تنهض الآية الكريمة (ذُقْ إنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الكَرِيمُ) لتعبّر عن حال (شركاء إهدار الدم العربي، مشيخيات النفط)، والتي تبدو وكأنها أتت بشكل إلهي محض، لا دور لمخابرات أو دول عظمى أو صغرى فيه، أتت ربما بسبب دُعاء أمّ أو إبنة شهيد أو مشرّد أو مصاب سوري أو عراقي أو يمني، اكتوى بنار آل سعود وآل حمد وآل زايد، ربما.. إنهم يذوقون الآن من نفس الكأس الذي صرفوا فيه أموال وثروات بلادهم كأس قتل الآخرين، و(ذق هنا) هي آية للعذاب والعقاب، الذي بدأ ونحسبه لن يعود إلا بعد تحقّق آياته وعبره !! .
ثانياً: ما ابتعدنا قليلاً عن آية العذاب القادمة من الله لتلك المشيخيات، وذهبنا إلى الأبعاد الاستراتيجية لأزمة قطر من شقيقاتها، فإننا نرى أن ثمة أحلافاً قديمة بدأت في التصدّع مع بدء تشكّل لأحلاف جديدة في هذه المنطقة المُلتهبة من العالم، وأهم الأحلاف التي تتصدّع هو حلف (حماية الإرهاب)، وهذا التصدّع سيصبّ حتماً لصالح (حلف المقاومة الممتد من روسيا التي سيقوى دورها إلى سوريا مروراً بإيران وحزب الله)، فسوريا ستشهد – وفق ما نتوقّع – تصدّعاً رأسياً وأفقياً، في الجماعات المسلّحة التي ترعاها قطر وتركيا أو تلك التي ترعاها السعودية والإمارات، وهو تصدّع سيصل إلى حد التقاتل الداخلي والتصفية المُتبادلة، الأمر الذي سيصبّ لصالح الجيش العربي السوري وحلفائه، ويرتبط بهذا أيضاً انشغال الحليف التركى بحرب مُحتملة ضدّ الحليف السعودي بعد الموافقة على إرسال 5 آلاف جندي تركي في حاضرة السعودية الرخوة مع قطر !!، ويلي ذلك انعكاس التراجع والهزيمة المؤكّدة في (الملف اليمني) بكل مآسيه التي تسبّبت فيه رعونة الحاكم الجديد للسعودية (محمّد بن سلمان)، سيتشقّق التحالف الخليجي في مواجهة الجيش والحوثيين، وسيؤثّر ذلك إيجاباً على الداخل اليمني، أما في ساحات المواجهة الأخرى فإن تراجع الدور القطري (المالي والسياسي والإعلامي) وتصارعه مع حلفاء الأمس (وبخاصة السعودية) سينعكس إيجاباً على الساحة الليبية، وسيناء المصرية، اللتان تشتعلان بالدم عبر السلاح والفتوى القادمين من طرفي الصراع الخليجي (الدوحة والرياض)، نحسب أن تقدّماً ملحوظاً سوف يحدث للجيشين الليبي (بقيادة حفتر) و(المصري في سيناء) ضدّ هذه الجماعات بعد أن تجفّف منابع تمويلها أو على الأقل تنشغل تلك المنابع بصراعاتها الخاصة.
ثالثاً: من كافة زوايا النظر، تُعدّ إيران هي الكاسب الأكبر من جرّاء هذه الأزمة الدامية بين قطر والسعودية، حيث بالعودة قليلاً إلى قمّة ترامب في الرياض وما نتج منها بين توصيات وابتزاز مالي وبرامج عمل، كان أبرزها وقوف هذا الحلف (50 دولة) صفاً واحداً ضدّ إيران، واعتبارها هي العدو الرئيسي وليس الكيان الصهيوني؛ وهي القمّة التي دشّن فيها (ترامب) السعودية كقائد (سنّي !!) جديد لهذا الحلف مقابل الفدية المالية الشهيرة التي دفعتها، لهذا السبب تحديداً، ولأسباب أخرى خاصة بإعادة تشكيل هيكل الحكم في الخليج إجمالاً، وفي السعودية لصالح محمّد بن سلمان؛ هذا المخطط الذي كانت خطواته تتسارع، سرعان ما انقلب رأساً على عقب، وإذ بالسحر ينقلب على الساحر وبدلاً من أن يصطفّ الحلف في ما خُطّط له، إذ به يتصارع داخلياً وبشكل دامٍ وصل إلى حد القطيعة والعزلة والضرب الاقتصادي والسياسي واسع النطاق بين أهم قادته السياسيين (قطر والسعودية والإمارات ومصر!!) بل وازداد الأمر تعقيداً حين قام أحد أطراف الصراع الدامي (قطر) بالطلب من إيران المساعدة العاجلة!! يحق لإيران إذن أن تفرح لهذا الانقلاب في حلف ترامب الجديد، الذي بدأ راعيه الأكبر (واشنطن) تتخبّط في قراراتها وتتقلّب بين (البنتاغون) و(الخارجية) و(البيت الأبيض)، وبدلاً من التفّرغ لإدارة الصراع مع إيران وحلف المقاومة، إذ بها تتفرّغ لمحاولة حل الصراع الناشب بين أهم حلفائها أو تابعيها في الخليج، ونحسب أن هذا الأمر سيستغرق وقتاً وجهداً أميركياً، ولكن بالمقابل على إيران وحلف المقاومة إلا يطمئن تماماً لهذا الانتصار الجديد، وأن يتحسّب جيّداً لسياسات الغدر القادمة من واشنطن والرياض والتي ربما كان مقدّمتها (تفجيرات طهران) قبل أيام .
رابعاً: نعتقد أن مصر أحد أهم المستفيدين من هذا التصدّع في البيت الخليجي، فمصر أضيرت من هذا البيت كثيراً وبخاصة من (قطر) و(السعودية)، فجماعات الإرهاب والفتاوي الوهّابية التكفيرية الداعمة لها، وعملياتها الإرهابية المموّلة قطرياً وسعودياً (حوالى 50 عملية كبرى منذ 2013 مع عشرات العمليات الصغيرة) وديون الاقتصاد، واللعب السعودي والقطري مع أثيوبيا في مياه النيل التي هي أحد أهم مرتكزات الأمن القومي المصري، كل هذه الملفات كانت عبئاً ثقيلاً على مصر، ومع تشقّق هذا الحلف واستجداء أحد أطرافه (السعودية والإمارات!!) لدور مصري مساند، تُعدّ مصر أحد المستفيدين الإقليميين مما جرى ومن استمراره (وحتى ولو كانت مصر قد استثمرت اللحظة فهي على حق في هذا لأنها كانت الأكثر دفعاً للأثمان خلال السنوات الخمس الماضية!!).
خامساً وأخيراً: نحسب أن هذه الأزمة الدامية بين قطر والسعودية، ستستمر لفترة، ولن تحلّ إلا بتدخّل من (السيّد) الأميركي، وسيكون تدخّله بثمن مالي كبير، وبضوابط سياسية وعسكرية على قطر والسعودية، وبشروط تصالحية قاسية والأهم، بانفتاح أكبر مع (إسرائيل)، ربما نصل إلى حد اتفاقية كامب ديفيد جديدة، ورغم هذا التدخّل الأميركي المُحتمل نحسب أن الأيام القادمة ستشهد مزيداً من الانقسامات الحادّة في مجلس التعاون الخليجي، وستُدار تلك الصراعات بمنطق القبائل القديم: (مَن ليس معي فهو ضدّي)، وهنا قد تنتقل عدوى الصراع إلى (الكويت) و(عُمان)، وكما قلنا في مقام آخر، (لن تنام دمشق.. إلا إذا استيقظت الرياض)، واليقظة هنا بمعنى الانشغال بالخلافات والصراعات والدماء داخل البيت الخليجي، بل والسعودي نفسه، ساعتها سينام (الدمشقيون أو اليمنيون وغيرهم ممن ابتلي بحرب الخليجيين عليهم) ملء جفونهم التي أقضها الدم النازف طيلة السنوات الست السابقة.
وساعتها يحق لرجل الشارع الدمشقي العادي، كما يحق لرجل السياسة والدين أن يردّد الدعاء المأثور في وجه من ظلمه، وشرّد وقتل أهله (اللّهم اشغل الظالمين بالظالمين وأخرجنا من بينهما سالمين)، وأن يصدق على قوله تعالى وهو يشير إليهم (ذُقْ إنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الكَرِيمُ) صدق الله العظيم.