المقالات

الاستعمار الفضائي

الجديد برس : رأي 

محمد ناجي أحمد – كاتب صحفي 

تؤسس وتبني الامبراطورية الأمريكية سطوتها على (قصف العقول) والسيطرة المستمرة عليها، من خلال الصورة والصوت كسلطة فعلية وليست مجازية فحسب. إنها تبني هيمنتها على تحكمها وتوجيهها للقنوات الفضائية ورسائلها الإعلامية، حذفاً وإضافة وتلاعباً بالأشياء والأقوال.
لم يعد الغرب في إدارته واستغلاله لثروات الشعوب ومقدراتها ومتطلباتها، يعتمد على تحريك أساطيله العسكرية البحرية والجوية وقوات الانتشار السريع فحسب، وإنما أصبح يحرك أساطيله الإعلامية ومملكته الفضائية، في التلفزيون والسينما والفنون والمؤثرات البصرية ومواقع التواصل الاجتماعي، مستخدماً العلوم الإنسانية في نجاح سيطرته نفسياً واجتماعياً واقتصادياً وسياسياً.
إنه الغرب إله شبكات النت والمنتصر في (حرب النجوم)، المستحوذ على كل حيز يؤثر فينا كمستهلكين، قابعين دون هوية، بل بهوية هلامية تسكت في سيل الصور التي ينتجونها لنا، مما يجعلنا في حالة انكفاء واكتفاء، ليس لنا خيار بين انكفائنا ضمن خطاب وهابي يهدم الفضاء الأمريكي واستلاب استهلاكي لسلطة الصورة التي يضخها فضاء الغرب وأذياله في المنطقة. لهذا نجد وسائل إعلام الغرب كما يقول أدونيس في كتابه (النص القرآني وآفاق الكتابة)، نجد وسائلهم الإعلامية (بمختلف أنواعها ومستوياتها، تعمل بطرق تجعل العالم أكثر سطحياً ومبتذلاً، كأنها تؤسس لنوع آخر جديد من ثقافة الأذن والعين، أعني نوع آخر جديد من الأمية)، وهي أمية تتلاقح مع اتساع الأمية الكتابية والمعرفية.
نحن في زمن الوسائط المعلوماتية التي تسبح في فضاء بصري وقولي، يكرس عبودية ناعمة ومتوحشة في آن.
كان صعود ريغان إلى سدة الإدارة الأمريكية إيذاناً بتدشين التداخل بين ما هو متخيل وما هو حقيقي، ثم عملت الصورة منذ مشروعه (حرب النجوم) على إزاحة الحقيقة لصالح سيل من الصور التي تغسل الأدمغة، لكنها لاتقول شيئاً، بل وظيفتها إزاحة القول والشيء.
هناك عالم من الصور لا مكان للحقيقة فيه. الحقيقة أصبحت شيئاً مستهجناً، وماضوياً ينتمي لزمن الأيديولوجيات الذي أعلنت موته في مفتتح التسعينيات، راسمة نظامها الرقمي الجديد!
غسلت الأدمغة منذ ما يقرب من 3 عقود، لنعيش ما تريدنا إياه الصورة.
لا حقيقة خارج سيل الصور، ونحن أشياؤها، هذا ما تريد أن نكون!
يتنقل الرئيس الأمريكي الشعبوي ترامب في القنوات الفضائية ومواقع التواصل الاجتماعي، متلاعباً بالعقول بتغريداته وتصريحاته وحواراته، وهو في كل ذلك يخدم وظيفة استعمارية واضحة: الاستمرار في نهب الثراوت وإعادة رسم الجغرافية السياسية وخارطة الصراعات بما يؤمن المزيد من الاستغلال والمزيد من التحكم!
يقود الكيان السعودي ومع مشيخات الخليج حروباً في المنطقة العربية في ليبيا وسوريا واليمن والعراق، بما ينهك المنطقة، ويجعلها تنبطح أمام الإملاءات القادمة، وهي مجزأة جغرافياً وإثنياً وجهوياً، ليتسيد الكيان الصهيوني، ولتستمر الإدارة الأمريكية بالعبث بهذه الأمة ثروةً وتاريخاً وجغرافيةً، بتغريدات شبيهة بعبث الأطفال الذي ينتهي بإتلاف اللعبة تلو الأخرى.
في هذا السياق يمكن فهم صراع الدمى الخليجية (إمارات العائلات المتحدة)، ويمكن فهم قيام الولايات المتحدة الأمريكية بتشبيب نظام الحكم في الكيان السعودي، بإعداد الحكم لملك شاب، وتغيير لائحة الملك بما يكفل هذا التغيير.
المملكة السعودية بإرادة غربية تستعيد شبابها لمرحلة متجاوزة للتأسيس والتكوين وصولاً إلى مرحلة التمكين الصهيوني.
لهذا فبقاء واستمرار الكيان السعودي مرتبط بوظيفته، وما النفط سوى واحدة من وظائفه.
فالتغيير في هذا الكيان يخدم استمراريته بتماسك واندفاع بعد أن تجاوز شيخوخته بسلاسة وتوافق.
الصراع مع هذا الكيان حلقة من حلقات الصراع مع الكيان الصهيوني والغرب، وعلينا أن نوطن أنفسنا لمواجهة وصراع ليس بالقصير.