الجديد برس : رأي
صلاح الدكاك – كاتب صحافي
اتسعت (تعز – أبو العباس وحمود سعيد وغزوان المخلافي) لسواطير شُذَاذ الآفاق والقراصنة والغيلان، وضاقت ذرعاً بـ(مزهر أيوب طارش ومواسم عبداللطيف يعقوب وملالاة عبدالباسط عبسي ووطنيات الفضول وعمر غلاب)، فيما اتسعت (صعدة أنصار الله) – في المقابل – لشعراء تعز وفنانيها ومتصوفتها وأيادي أبنائها المهَرَة، وضاقت ذرعاً بالإقطاعيين وطيور الظلام وآكلي لحوم البشر ومتعهدي إسطبلات بني سعود والعملاء والجلادين.
صعدة التي عاشت في أذهان غالبيتنا بضعة عقود، عنواناً للوصاية السعودية، وكرَّستها سلطة الوكلاء في الذاكرة الجمعية لمجتمعات وسط وغرب وجنوب اليمن، بوصفها حاضنة للتخلف والجلافة وغلظة الطبع، ومحض سوق سوداء للسلاح والمخدرات، تدحض اليوم بأيدي (أنصار الله) قبح الصورة النمطية المروجة لها رسمياً، وتطالعك بوصفها محجاً للشرف والوطنية، وقبلةً للأحرار، وحاضنة حميمة للعصافير التي شردتها السواطير والمفخخات وكواتم الصوت الداعشية.
وعلى النقيض من ذلك، أضحت (تعز – الثقافة والمدنية) بيئة طاردة لقيم الجمال، وحاضنة لألوان القبح والنشاز المحلي والمستورد على أيدي الأحزاب (التقدمية اليسارية والقومية).
حتى في حلمي لم يعد بوسعي التعريج على باب منزلنا في تعز منذ الـ19 من مارس 2015م، بينما قصدت صعدة، الأسبوع الفائت، حاملاً أضاميم شعر، فأفسحت لي المدينة التي أعلنها غراب تحالف العدوان عسيري منطقة عسكرية لا حرمة لشبر فيها ولا لبشر، شرفةً كونية موصولة بالسماء وضاربة في نواة الأرض.
لفظتني تعز بقسوة، ونثرت شتات أوراقي في (تواليت أبو العباس)، وأخذتني صعدة من يدي برفق لتتوجني ملكاً على عرش القصيدة، ولملمت شتات نفسي وجبرت كسور روحي الشريدة المثخنة بخناجر الرفاق والأقارب.
أشاحت تعز بوجهها عني وصعرت لي خدها مفتونة بوجوه المسوخ ذوي الحدقات المطفأة والبصائر الضريرة والأرواح المجذومة، ومنحتني صعدة كل جوارحها وخلجاتها، وأصغت بخشوع لثرثراتي، وحين هتفت تعز: (شكراً سلمان – شكراً زايد – شكراً مراكب الغزاة المحررين)، هتفت صعدة: (شكراً صلاح الدكاك – شكراً معاذ الجنيد – شكراً فضل النهاري ورند الأديمي وعبدالرقيب المجيدي ووليد العبسي وأنس القاضي وحلمي الكمالي ورمزي العبسي وجميل المقرمي وحسام باشا و…)، أسراب مديدة من نوارس تعز الموضوعين على قوائم داعش السوداء والمسجلين لديها في خانة (مطلوبين للذبح)!
كتب أحد الموتورين معلقاً باستهجان على صباحيتنا الشعرية المقامة في صعدة: (يأخذون شعراءنا ويرسلون إلينا قناصتهم). كان منطقه ينقض بعضه البعض، ولم يكلف نفسه عناء السؤال لماذا يحدث ذلك! كما لم أشأ أن أقول له: أخرجت مكةُ نبيها ومن معه من أحرار، وكفرت به، فآوتهم يثربُ وآمنت به ونصرته وعزرته ووقرته، على وعد الله بفتح مبين، مع فارق المقام بيننا وبين سيد البشر وأزكى الخلق وأشرف من وطأ التراب، عليه وعلى آله الصلوات والتسليم.
إن أولى الناس بتعز الذين حفظوا ما تبقى من ماء وجهها المهدور في مزاد العمالة والارتزاق، والانتماء لتعز هو انتماء لوطن، وهو قضية وموقف، لا انتماء لعصبية قرابية وحيز جغرافي بالانسلاخ عن النسيج الوطني والإنساني الرحب والقطيعة معه، كما هو حال المضاربين بشرف وكرامة ووطنية المدينة على فراش الغزاة والمحتلين.
إن تعز (الكلمة الطيبة) تخصب في (صعدة) كما تخصب اليوم كلمة داعش الخبيثة في تربة تعز الذاوية، بالضد لصعدة والوطن أجمع نسيجاً وتراباً.
وإذا كانت هذه الشجرة الخبيثة هي تعز التي يطريها الموتورون ويباهون بالانتماء إليها، فإنني أشطب – غير آسف – شهادة ميلادي وأقطع جميع شراييني، وأنتمي إلى صعدة، وأدين بدينها مباهياً العالم.
إنه زمن صعدة أيتها الغرابيل الساذجة العمياء، كما كان ذات أمس غابر زمن تعز قبل أن تذبحها سواطير البترودولار من الوريد إلى الوريد.