المقالات

نحن حقاً لا نعرفهم وهم ليسوا منا

الجديد برس : رأي 

مختار الشرفي 

أبو القاسم وضعني أمام حقيقة أن أنصار الله والسيد عبد الملك الحوثي لم يعيدونا إلى زمن تقبيل الركب فقط، وإنما إلى زمن أكثر نبلاً وعزة، بتنا نقبل فيه الأرجل والأحذية دون أن نسأل صاحب الرجل والحذاء عن هويته واسمه وانتمائه الأسري أو المناطقي أو السياسي، قبلة لم يطلبها أحد، ولم تكن بقرار مسبق، ولم تكن تملقاً، وإنما امتناناً وفعلاً عفوياً لاإرادياً، تجبلك عليه فطرتك السوية..
أبو القاسم شاب عشريني يلقب نفسه باسم المشرف الذي كان مسؤولاً عنه قبل أن يستشهد في إحدى الجبهات ويوصي أبو القاسم بقيادة المجموعة خلفاً له..
صعقني تماماً هذا الشاب الوسيم جداً، الذي يخوض غمار السباق على الطرقات الوعرة مع صواريخ الطائرات الحربية والاستطلاعية بشكل شبه يومي، ويغامر في كل صباح بخوض هذا السباق، وهو يعلم يقيناً أنه قد يكون آخر يوم له في مضمار السباق وفي حياته بأكملها.
المدد للجبهات هو ما لا يمكن أن يتوقف ليوم واحد إلا في حال كان الوصول الى المناطق التي يتواجد فيها المجاهدون مستحيلاً، وليس هناك طريق توصل المدد إليهم، وأبو القاسم وأمثاله هم المدد..
كان لي شرف التعرف على أبو القاسم الذي تعلو وجهه ابتسامة نجوم السينما والإعلانات، وكان ذلك في زيارتي لإحدى الجبهات على الحدود لزيارة المجاهدين بمناسبة العيد، كان أبو القاسم يقود الطقم المحمل بالمدد وعدد من الزائرين، وكان يخترق كالسهم الفضاء ويزمجر ويطلق صيحات شبيهة بأصوات الهنود الحمر التي يطلقونها وهم يخوضون معاركهم مع الغزاة الأوروبيين لبلادهم في أميركا الشمالية، وعلى طقم آخر كنت أنا ورفاقي، نسابقه في قلب أحد الأودية الوعرة والصحارى المفتوحة، كان يسبقنا حيناً وكنا نسبقه حيناً، وكلنا حماس ألا يتمكن من الوصول إلى نقطة النهاية قبلنا، حتى إن حماسته أنستنا أن فوق رؤوسنا تحلق (زنانات) العدوان وطائراته الحربية التي تبحث عمن تقتله، وصلنا إلى النقطة الأخيرة وكنا نحن قد سبقنا أبو القاسم، وكنت مهتماً جداً بانتظار وصوله للتعرف عليه والمفاخرة بأنا سبقناه، ولكني عند وصوله تجمدت ولم أعد قادراً سوى على التحديق فيه وهو ينزل من مقعد السائق متكئاً على عكازين ويرفع رجله وساقه اليمنى التي يثبت عظامها مجموعة من المسامير المغروزة فيها من حد الرسغ إلى أسفل الركبة، وهذه الرجل هي ذاتها التي يعتمد عليها في دواستي البنزين و(الكليش) أو ناقل السرعة، بدت قدمه وساقه متورمتين وحجمهما ضعفي حجم قدمه وساقه السليمتين، يتحرك بالعكاز بصعوبة ويتكئ عليه، وهو فعلاً لا يمكن أن يسير من دونه، ولكنه لا يعير ساقه المهشمة أي اهتمام عندما يتحرك في أداء واجبه الجهادي.
الصدمة والذهول لازماني لأكثر من نصف ساعة وأنا أتأمل في ساقه وابتسامته وحديثه البشوش والمفعم بالحيوية معنا ومع رفاقه وباقي الزوار، في وقت كنت أتحسس فيه شيئاً من الألم في يدي وركبتي وظهري بسبب المطبات التي أثرت علي أنا وزملائي بفعل وعورة الطريق وسرعة حركتنا، كنت مرهقاً جداً، وكان أبو القاسم كأنه أفاق للتو من نوم عميق لساعات طويلة، أتحسس ركبتي من ألم تافه، ويبتسم أبو القاسم بكل تلك الكسور والمسامير في رجله كأنها مسامير في خشبة ملقاة على الأرض وليست ساقه.
عندما كان وقت الزيارة قد انتهى، وكان لابد من المغادرة قبل حلول الليل، وجدت نفسي – ومن دون أن أشعر، ومن دون أن أسأله حتى عن اسمه ومنطقته وطبيعة عمله وسبب إصابته – أنحني إليه مقبلاً قدمه، والله إني لم أشعر بسعادة على قبلة سبقتها في حياتي حتى التي وضعتها على الحجر الأسود، كما شعرت بمثل سعادتي بهذه القبلة التي استفزته وصدمته، فقلت له والله ما جئنا إلا لننحني لكم ونقبل أقدامكم، وما لدينا ما نقدمه لكم أو نتفضل به عليكم، فزيارتكم شرف منحتمونا إياه، وتقبيل أحذيتكم منة لكم علينا وواجب علينا تجاهكم.
في اليوم التالي بعد أن أمضيت مع زملائي الزائرين ليلتنا مرابطين في أحد المواقع، كان أبو القاسم قد عاد مجدداً إلى الموقع الذي نحن فيه، حاملاً المدد لرفاقه، وكان لنا شرف العودة معه من الجبهة، ورددنا معه صهيله عندما كان يشق الصحراء والوادي وسفح الجبل، رافضاً أن يتوقف للتمويه بفعل تحليق الطيران فوقنا، فهو يعتقد أن الطيران لن يصيبه إلا إذا توقف، وهو يفضل خوض السباق مع الطائرة والصاروخ على أن يتوقف فتصيبه صواريخ الطائرة مرة ثانية، ويستشهد رفاق آخرون له كما حدث معه قبل قرابة العام..
القصة الكاملة عن إصابته واسمه وهويته ومنطقته وطبيعة عمله عرفناها عندما تناولنا طعام الغداء في منزله بعد أن أصر وبطريقة لا تترك لك فرصة للاعتذار عن تلبية عزومته لنا، حاولنا إقناعه بأن يتوقف عن العمل، وأن يرتاح حتى يتماثل للشفاء، فرد مبتسماً بأنه لا يشعر بالألم إلا إذا توقف، وأن إصابته تتحسن أكثر عندما يكون في الجبهات مع الله، وقال: (لو تهدروا معي لما غدوة أني أوقف وأرتاح ما به فايدة، ولو قلت لكم مرحباً، فما هو إلا مجبر، عتغالطكم به وما أنا موقف، والعافية باتجي أسرع طالما أنا مع الله).
في الجبهات تشعر أنك خرجت من كل هذا العالم إلى نقطة لم يسبق أن سمعت عنها أو عن سكانها، وتكتشف قوماً يحملون أخلاقاً وروحية ربانية وإنسانية، لا يكفي أن تقرأ عنها في القرآن أو في السير أو حتى في ملازم السيد حسين رضوان الله عليه، وكل خلق وسلوك يمكن أن يصف أهل الجبهات، لن تعرف معناه وكنهه ما لم تكن قد زرتهم.
أبو القاسم نموذج لبقية المجاهدين، ويكبر قلبك وتتهلل أساريرك عندما تسمع من أبو القاسم، رواياته عن رفاقه الذين يقول إنه لا يعدل أحداً منهم في التضحية والبذل والتوجه الى الله، وهو يبدو محقاً في قوله، وأيضاً متواضعاً ومنكراً لذاته، وهذا هو حال وخلق كل المجاهدين في الجبهات، المعزولة عن اهتماماتنا وفهمنا، والبعيدة عن رداءة واقعنا وكل العالم.