المقالات

تحرير الذاكرة ثورة

الجديد برس : رأي 

صلاح الدكاك 

عاش الزعيم الراحل جمال عبدالناصر سنوات مابعد ثورة يوليو 1952م مطمئناً من أنه لن يُغدر من ظهيره الجغرافي اليمني الجنوب شرقي ، فنظام الإمامة، علاوةً على أنه وطني مستقل القرار ومناهض لبريطانيا و الكولونيالية الغربية بالعموم،  كانت تربطه علاقات متينة مع كلٍ من السوفيات ومصر الناصرية والتوجه القومي لزعيمها ومشروعه للوحدة العربية، غير أن متغير إطاحة ماعرف بـ”تنظيم الضباط الأحرار” بالبدر في انقلاب عسكري في سبتمبر 1962م قد أثار مخاوف ناصر والسوفيات معاً من أن تقع اليمن في حظيرة الوصاية والهيمنة الأمريكية السعودية كموقع استراتيجي مهم لجهة الحرب الباردة حينها…لذا فقد قرر عبدالناصر التدخل العسكري لتلافي هذا الاحتمال الوارد.
يمكن الجزم تأسيساً على هذا السياق الموضوعي من المعطيات أن تدخل عبدالناصر لم يكن ولعاً بالجمهرة وإنما شغلاً لفراغ الخط السياسي الجمهوري الفتي الذي تتوثب الرياض بحفز من واشنطن لشغله والتي بدورها لم تتدخل ولعاً بالملكية والإمامة بحسب ما تؤكده مراسلات “فيصل – ليندون جونسون”وإنما مسارعةً لشغل فراغ نفوذ مؤاتٍ لم تكن تحلم به إبان قوة دولة الإمامة ووضوح خطها السياسي العصامي.
في هذه المراسلات يقر  فيصل بأن اليمن ستكون مصيدة لناصر في الحالين وستسهم في القضاء على مشروعه القومي كما سيتيح التدخل فيها تذرعاً بالملكية للرياض تأمين ساحة نفوذ في الظهير الجنوبي لبحيرة النفط الخليجية  فيما نظر ناصر إلى مسألة التدخل العسكري المصري على أنه سيتيح ساحة متقدمة لمواجهة بريطانيا وتخوم استراتيجية للمنظومة الاشتراكية محاذية لمنطقة النفوذ الأمريكي الحيوية في الجزيرة العربية والخليج “الفارسي”.
جرت رياح خمس سنوات من الحرب الضروس على نقيض غايات ناصر ولصالح أعدائه فاستنزفت عشرين ألفاً من قوام ضباطه وجنوده المعسكرين في اليمن وأسهمت نفقات الحرب الباهظة عتاداً وبشراً في تهيئة ظرف داخلي مصري ملائم للعدو الإسرائيلي “إلى جانب عوامل أخرى” استغله العدو وترجمه في حزيران 1967م على هيئة ضربة عسكرية مركبة هي الأعنف كسرت العمود الفقري للحلم القومي واضطر ناصر إثرها للانسحاب من اليمن و تركها لمصيرها في اتفاق مع الملك فيصل على هامش مؤتمر الخرطوم المعروف بمؤتمر “اللاءات الثلاث”.
عاش عبدالناصر بعدها قرابة ثلاثة أعوام مثخناً بخيبة الأمل للانهيارات الدراماتيكية في المسرح القومي العربي و لنتائج الاشتباك في اليمن التي صبت في مصلحة نشوء “جمولكية سعودية”ولم يدم تفاؤله طويلاً للمقاومة الشعبية الفذة التي أبداها اليمنيون الشرفاء في حصار السبعين ضد قوى العدوان الرجعية فقد انقلب الانتصار إلى انتكاسة مع أحداث أغسطس 1968م ومن ثم إلى سقوط الجمهورية بالكامل سدةً و قراراً تحت وصاية الرياض.
وباستعراض سريع لردات فعل الوطنيين المسلحة وغير المسلحة لإعادة الجمهورية إلى جادتها الوطنية و تحريرها من رسن الوصاية الأمريكية السعودية  في العقود التي أعقبت أحداث أغسطس و “اتفاقية الإذعان 1970م”،وإلى اليوم، يتبين قطعاً أن ثورة الحادي والعشرين من أيلول 2014م هي ردة الفعل الشعبية الجذرية الوحيدة التي أعادت الاعتبار للوطنية الجمهورية دون اتكاء على إسناد قوة خارجية بل بعصامية محضة خلافاً لردات الفعل السبعينية التي راهنت خلالها القوى الوطنية على إسناد اليمن الديمقراطي كممثل للمعسكر الشرقي وخلافاً لجمهورية 1962م التي اتكأت على التدخل العسكري المصري المباشر.
لا غرابة إذن – أن يكون الحادي والعشرون من أيلول بمثابة نكبة فادحة بالنسبة لقوى العمالة ووكلاء أمريكا الإقليميين الذين قرفصوا على ظهر جمولكية الإذعان القشورية طيلة خمسة عقود ليخسروا كل ذلك بين عشية الثورة وضحاها في 2014م.
أخيراً أتمنى ممن لايزال حياً من مناضلي سبتمبر 62 الشرفاء كما ومن الباحثين الوطنيين هتك الستار عن حقيقة المراسلات والتواصل والتنسيق الذي جرى بين بعض قيادة تنظيم الضباط والشخصيات الاجتماعية اليمنية من جهة وبين السفارة الأمريكية “في تعز حينها” و عن دور المدعو “مفيد عبده نعمان- إن لم تخني الذاكرة” و “أحمد عبده سعيد” في تطبيع العلاقة بين الجانبين بحيث تسنى للأمريكان وسفيرهم “ديفيد نيوتن حينها” الاطلاع على مجريات ترتيبات الانقلاب العسكري لحظة بلحظة وصولاً إلى عشية الإسناد الزمني لتنفيذه…..
معطيات كهذه تثبت أن صلة واشنطن بتنظيم الضباط وجمهوريي 1962 كانت أبكر من صلة عبدالناصر بهم لاسيما بحساب الاختراق الغربي لأجهزة ناصر الأمنية والاستخبارية التي جعلت من التدخل المصري في اليمن يفقس نقيض ما أراد له عبدالناصر أن يفقس وأسهمت في نكسة 1967م بصورة جلية لا جدال حولها.
#تحرير_الذاكرة_ثورة