الجديد برس : رأي
لا يزال إليوت أبرامز، صديق «ثوّار الأرز» وعرّابهم في مرحلة غابرة، يحتلّ موقعاً نافذاً في المؤسّسة السياسيّة الحاكمة في أميركا. وهو لا يزال من خلال موقعه في مجلس العلاقات الخارجيّة (وقبل ذلك في «أميركان إنتربرايز انستيوت») يؤثّر على النقاش السياسي الدائر عن السياسة الخارجيّة الأميركيّة. وقد أراد ركس تلرسون، وزير الخارجيّة الأميركيّة الحالي، أن يعيّنه نائباً له لكن الرئيس دونالد ترامب، بعدما قابله في البيت الأبيض، رفض تعيينه ربما لأن أبرامز كان — مثل غيره — قد انتقد ترامب خلال الحملة الانتخابيّة الرئاسيّة. وابرامز هو صلة الوصل بين اللوبي الإسرائيلي والمؤسّسة الحاكمة ومراكز الأبحاث.
وتسريبات البريد الالكتروني ليوسف العتيبة، السفير الإماراتي في واشنطن، أظهرت علاقة وثيقة جداً بينه وبين دولة الإمارات التي باتت أقرب دولة عربيّة إلى العدوّ الإسرائيلي.
ويكرّس إليوت أبرامز كتاباً جديداً له (صدر قبل أسابيع فقط) بعنوان «الواقعيّة والديموقراطيّة: السياسة الخارجيّة الأميركيّة بعد الربيع العربي»1 لموضوع الواقعيّة في العلاقات الدوليّة في تطبيقها على منطقة الشرق الأوسط. وقطب المحافظين الجديد المعروف هذا، الذي شغل منصب مسؤول ملف الشرق الأوسط (وملفّات أخرى مهمّة) في مجلس الأمن القومي في إدارة جورج دبليو بوش، برز في شعار الديموقراطيّة، الاسم الحركي لحروب أميركا في عهد بوش. وعندما أعلن وليد جنبلاط عن نبذه لساعة تخلٍّ مرَّ بها — أو واحدة منها لكثرتها — وانتقد المحافظين الجدد في عام ٢٠٠٩، سخر أبرامز منه وقال إنه «لا يصدّق لثانية» أن جنبلاط يندم على تحالفه مع المحافظين الجدد، وذكّر جنبلاط من خلال موقع «سليت»2 بأنه — أي جنبلاط — لا يزال يرسل إليه صناديق من نبيذ البقاع.
ويظنّ كثيرون في بلادنا أن أبرامز هو مختصّ في شؤون الشرق الأوسط فيما هو لم يدرس المنطقة أو لغاتها، لا في الجامعة للحصول على بكالوريوس ولا في الماجستير في لندن، ولا في كليّة الحقوق في هارفرد حيث نال شهادة في القانون. لكن في حسابات العاصمة واشنطن، خصوصاً بعد تدمير نفوذ المستعربين في الإدارات الأميركيّة المتعاقبة 3، يصبح التعصّب الشديد للمصالح الليكوديّة والولاء المطلق للوبي الإسرائيلي هو الشرط الأوحد لتولّي شؤون الشرق الأوسط في مختلف الإدارات الأميركيّة. حتى إن السفير (أو السفيرة) الذي يخدم في منطقتنا لا يترفّع في المراتب الإداريّة من دون المرور عبر مدرسة اللوبي في الطاعة: وهذه هي حكاية جيفري فيلتمن، القليل المعرفة بثقافة ولغات وتاريخ المنطقة لكن تقرّبه من اللوبي سهّل له القفز السريع والوصول إلى الدائرة السياسيّة في منظمّة الأمم المتحدة.
كانت إدارة ريغان واضحة في أنها ستحيد حتى عن التركيز الخطابي على حقوق الإنسان
إليوت أبرامز بدأ عمله في الحملة الرئاسيّة للسيناتور هنري «سكوب» جاكسون في عام ١٩٧٦، وجاكسون كان مِن أبرز وأقوى وأصدح مناصري إسرائيل في الكونغرس الأميركي. جاكسون أسّس لمدرسة لم تندثر في الولاء المطلق للوبي الإسرائيلي في الكونغرس الأميركي. وكان أبرامز ديموقراطيّاً مثل جاكسون. لكن أبرامز (مع مجموعة من الصهاينة) انتقل في الحملة الانتخابيّة لرونالد ريغان ضد جيمي كارتر في عام ١٩٨٠ إلى صف الحزب الجمهوري، وبقي فيه. القضيّة عند هؤلاء كانت أن الحزب الديموقراطي تساهل كثيراً مع الشيوعيّة العالميّة ولم يكافحها بما فيه الكفاية، وان الحزب في عهد كارتر فرّط في المصالح الاسرائيليّة. يزعم هؤلاء أن دافعهم كان في مجال السياسة الخارجيّة لكن هؤلاء انضووا تحت لواء السيناتور الديموقراطي السابق، دانيال باتريك مونيهان 4، الذي كان معروفاً بعنصريّته ضد السود ومعارضته لبرامج الرعاية الاجتماعيّة. وعمل أبرامز لرئيسي الأركان موظّفي السيناتور مونيهان الذي كان مسؤولاً عن تعريف أبرامز على المؤسّسة الحاكمة.
لكن أبرامز عُرف في عهد رونالد ريغان عندما تسلّم مناصب رفيعة في الإدارة، في مجال المنظمّات الدوليّة ثم في مجال حقوق الإنسان ثم في شؤون أميركا اللاتينيّة. وتورّط في فضيحة إيران ـ كونترا عندما كذب في شهادة أمام الكونغرس (هو قال إنه لم يفشِ لهم بمعلومات)، وحُكم في جنحتيْن لكن الرئيس جورج بوش (الأب) عفا عنه فيما بعد. وكتاب أبرامز الجديد مُخصّص لموضوع الديموقراطيّة وحقوق الإنسان، وفي الشرق الأوسط بصورة خاصّة. وهو أراده دليلاً لكيفيّة التعاطي الأميركي مع موضوع الديموقراطيّة في العالم العربي.
تتنازع نظريّات متعدّدة في حقل العلاقات الدوليّة. في فترة ما بين الحربيْن الكونيّتيْن، سادت نظريّة الليبراليّة ـ المثاليّة التي نظّرت لتفعيل الأخلاقيّة والمنظمّات الدوليّة في التعاطي بين الدول وفي حل النزاعات. لكن هذه النظريّة تعرّضت للهزيمة بعد الحرب العالميّة الثانيّة، حين سادت في دول الغرب نظريّة الواقعيّة (بتفريعاتها) في دراسة العلاقات الدوليّة وفي ممارستها. والمدرسة الواقعيّة هذه تعتمد على فرائض عدّة: ١) أن الدولة هي العنصر الوحيد المهم في العلاقات الدوليّة. ٢) أن الدول تتنازع وتتصارع في إطار فوضى عالميّة، وأن المنظمّات الدوليّة لا يمكن التعويل عليها للدفاع عن مصالح الدولة. ٣) أن القوّة (الحصول عليها والحفاظ عليها وتنيمتها) هي الأساس في مرامي الدول. ٤) أن المصالح القوميّة أهم من الأيديولوجيّات كافّة. ٥) أن افتراض السلوك العقلاني للدول في سعيها لمزيد من القوة يساعد في رسم السياسات. وهناك تفرّعات لهذه المدرسة العريقة، ومنها مَن تُشدّد على الإطار البنيوي الذي تدور فيه الصراعات الدوليّة، ومنها، مثل نظريّة «الواقعيّة الهجوميّة» (لصاحبها جون مرشهايمر 5) التي ترى أن السعي إلى القوة القصوى يجب أن يكون هدف الدول لأن نيّات الأخصام والأصدقاء غير معروفة وغير مأمونة.
يميّز أبرامز بين مسارات ثلاث في السياسات الخارجيّة الأميركيّة نحو موضوع حقوق الإنسان. ١) المسار الأوّل، حسب تصنيف المؤلّف، هو مسار جيمي كارتر الساذج، الذي أولى موضع حقوق الإنسان أهميّة لكنه لم يميّز بين الصديق والعدوّ. لكن أبرامز على حق في نقده لمسار كارتر المنافق، الذي لم يكن يشير إلى حقوق الإنسان في الدول التي كانت متحالفة مع الحكومة الأميركيّة. وهناك مقطع تاريخي من خطاب لجيمي كارتر (الذي زعم كَذِباً أنه معني بحقوق الإنسان) ألقاه في إيران في زيارته لها في نهاية سنته الرئاسيّة الأولى في الحكم، وقال فيها: «إن إيران، بحكم القيادة العظيمة للشاه، هي جزيرة من الاستقرار في واحدة من أكثر المناطق اضطراباً في العالم. هذه تحيّة عظيمة لكم، يا صاحب الجلالة، ولقيادتكم وللاحترام والإعجاب والحب الكبير الذي يكنّه شعبك لك… إن قضيّة حقوق الإنسان هي مشتركة أيضاً مع شعبنا ومع قيادة بلديْنا». أي أن كارتر لم يحد عن خط النفاق الأميركي الكلاسيكي في التعاطي مع الحلفاء الطغاة، وكان الطاغية أنور السادات من أكثر البشر الذين أثّروا عليه في حياته، بحسب اعترافه. وكارتر هذا سبق ريغان في تبنّي وتسليح ورعاية «فرق الموت»— الحاكمة أو المعارِضة — المعادية للشيوعيّة في نيكاراغوا والسلفادور وفي أفغانستان أيضاً. ٢) المسار الثاني هو مسار الواقعيّة في السياسة الخارجيّة، والذي انتهجه الحزب الجمهوري. وهذا المسار لم يُراكم الخطب في موضوع حقوق الإنسان ولم يجعل منه قضيّة للزهو الرسمي. على العكس، كان مسار نيكسون وكيسنجر يقضي بإيلاء قضايا المصلحة القوميّة والقوّة الأهميّة الكبرى وإهمال قضيّة حقوق الإنسان. والمؤلّف ينتقد، كما المحافظين الجديد، موقف كيسنجر لأنه لم يكترث في الحكم لقضيّة حقوق الانسان في الدول الشيوعيّة. ويعترف الكاتب بأن هذا المسار كان يدعم الحلفاء الطغاة على حساب حقوق الإنسان والديموقراطيّة.
٣) أما المسار الثالث، فهو المسار الذي يوازي — برأي الكاتب — بين الواقعيّة في السياسة الدوليّة، أي الحرص على كسب وتعزيز وزيادة السلطان في الساحة الدوليّة، لكن مع حرص ما على حقوق الإنسان. لكن هنا يقع الكاتب في تناقض نعهده في الإدارات الأميركيّة. هو يؤمن أن خارقي حقوق الإنسان حول العالم ليسوا متساوين. فهو يفضّل الطغاة المتحالفين مع الحكومة الأميركيّة على الطغاة المعارضين لها. أي أن المسار الثالث ليس إلّا المسار الثاني (أو حتى الأوّل) مع تزيين دعائي وزخرفات دعائيّة ضروريّة. وقد أثّر على تفكير الكاتب في هذا الموضوع كتابات جين كيرباتريك (التي شغلت منصب أستاذة العلوم السياسيّة في جامعة جورجتاون 6 قبل أن يعيّنها رونالد ريغان — وهي ديموقراطيّة سابقة — مندوبة الولايات المتحدة في الأمم المتحدة). وكانت جين كيرباتريك قد كتبت مقالة «الديكتاتوريّات والمعايير المزدوجة» 7 في عام ١٩٧٩، وميّزت فيها بين الأنظمة التوتاليتاريّة وبين الأنظمة التسلّطيّة، أي الديكتاتوريّة لكن المتحالفة مع المصالح الأميركيّة. وحجّة كيرباتريك في ذلك أن الأنظمة الشيوعيّة — وكانت تستعمل وصف الشيوعيّة متلازماً مع وصف التوتاليتاريّة — أسوأ مِن أي بديل لها، فيما الأنظمة التسلّطيّة المتحالفة مع أميركا تُستبدَل دوماً بأسوأ منها. ولهذا فإن كيرباتريك لم تجد حرجاً في الدعم الأميركي للأنظمة التسلّطيّة حول العالم. وأبرامز، في أوّل مذكرة كتبها عن حقوق الإنسان في إدارة ريغان، أورد حجّته في الاهتمام الشكلي بحقوق الإنسان في الأنظمة الموالية للمصالح الأميركيّة، إذ قال إن ذلك يساعد في إسباغ مصداقيّة على التحريض ضد الأنظمة الشيوعيّة 8— أي أن الحملة والنطق باسم حقوق الإنسان ليس إلا دعاية سياسيّة صفيقة. أما جورج شولتز، ثاني وزير خارجيّة في عهد ريغان، فلم يُوارب: رأى أن الكلام الرسمي عن حقوق الإنسان هو جزء لا يتجزّأ من نشر السلطان الأميركي حول العالم.
لكن تعريف أبرامز لحقوق الإنسان يصرّ على تفريغه من أي مضمون اقتصادي ــ اجتماعي لأنه يساوي بين الاهتمام بحقوق المواطنين في الرعاية الصحيّة والاجتماعيّة وبين العقيدة الشيوعيّة، حتى لو كان الاهتمام صادراً على لسان وزير الخارجيّة الأميركي في عهد كارتر، سايرس فانس 9. لكن أبرامز (المُنتهج لـ«المسار الثالث» أعلاه في تطبيق السياسة الأميركيّة للحرص على حقوق الإنسان) يجهد كي يعطي أمثلة حقيقيّة عن الاهتمام بحقوق الإنسان في عهد ريغان، الذي عمل فيه قيصراً لحقوق الإنسان. لا تجد في تلك الحقبة إلا رفع شعار حقوق الإنسان فقط بوجه الأنظمة التي تجرؤ على معاداة السياسات والحروب الأميركيّة. لكنه يعدّد سلسلة من الأنظمة التسلّطيّة التي يرى أن أميركا نجحت في دفعها (في الثمانينيّات) نحو احترام حقوق الإنسان. الطريف أنه يذكر المغرب وغواتيمالا والسلفادور بين تلك الدول، أي الأنظمة التي ارتكبت جرائم حرب فظيعة في تلك الفترة. ويعتزّ أبرامز بمثال السلفادور و»انتخاب» جون نابوليون دوارتي رئيساً للجمهوريّة. لكن الرجل، الذي كان ألعوبة بيد العسكر السلفادوري والحكومة الأميركيّة على حدّ سواء، لم يدعُ إلى إنهاء الحرب الأهليّة إلّا بسبب تنامي المعارضة الداخليّة والضغوطات الأميركيّة التي خشيت على مصالحها.
فاق سجل الـ«كونترا» في خرق حقوق الإنسان سجل النظام الشيوعي في نيكاراغوا
والجدال بين صفوف المحافظين كان مستعراً في فترة الثمانينيّات من القرن الماضي: بين الذين قالوا مثل جين كرباتريك إن «بعض الديكتاتوريّات أفضل مِن غيرها»، وبين الأب الروحي للمحافظين الجديد، إيرفن كريستل، الذي كتب ضد أي شعور بالذنب من جانب الولايات المتحدة لرعايتها لعدد كبير من الأنظمة التسلّطيّة حول العالم 10. كريستل لم يكن يعتقد أن كل الشعوب في العالم الثالث تتوق إلى الحريّة. وهذا الرأي عارضته إدارة جورج دبليو بوش لكن ليس من أجل «تحرير» الشعوب من الظلم والقهر، وإنما لفرض قهر وظلم الاستعمار بأسماء وشعارات زاهية. لكن إدارة ريغان كانت واضحة في أنها ستحيد حتى عن التركيز اللفظي الخطابي على حقوق الإنسان: فهذا ألكسندر هيغ، أوّل وزير خارجيّة في عهد ريغان، يقول في أوّل مؤتمر صحافي له أن «الإرهاب الدولي سيحتلّ مكان حقوق الإنسان في اهتمامنا».
وليس في حوزة أبرامز لتعزيز حجّته بأن الإدارات الجمهوريّة التي عمل فيها دعمت حقوق الإنسان في الأنظمة المتحالفة مع أميركا إلا النفاق. هو يريد من القارئ أن يصدّق أن أميركا كانت وراء إقصاء جان كلود دوفالييه عن الحكم في هايتي، وليس الشعب الهايتي نفسه، أو أن أميركا هي التي أقنعت فردينانتد ماركوس في الفيليبين بالتخلّي عن الحكم، لا شعبه. لكن الحقيقة أن أميركا، في العهود الجمهوريّة والديموقراطيّة على حدّ سواء، تتمسّك بالحاكم إلى أن يصبح عاجزاً عن الاستمرار في الحكم بوجه هبّة أو غضبة شعبيّة، وعندها فقط تحاول أميركا بالخداع إقناع العالم أنها هي كانت وراء إقصاء هذا الحاكم. وهذا بالضبط ما فعلته إدارة أوباما في بدايات عصر الانتفاضات العربيّة. تمسّكت الإدارة الأميركيّة بماركوس وبدوفالييه وبشون دو هوان في كوريا الجنوبيّة حتى اللحظة الأخيرة، لكنها تظهر على المسرح بعد إقصاء الطاغية كي تقطف ثمار إقصائه.
إن حقوق الإنسان كانت، ولا تزال، ذريعة بيد أنظمة الغرب كي تضغط بها على أنظمة معادية لها، من أجل تغيير الحكم فيها لصالح قوى متعاونة مع المصالح الغربيّة بصرف النظر عن مواقف تلك القوى من الديموقراطيّة وحقوق الإنسان. نكاد ننسى عندما نقرأ كتاب أبرامز أنه كان بوقاً للإدارة في الدفاع عن الـ«كونترا» (ميلشيات فرق الموت اليمينيّة) في نيكاراغوا، والتي فاق سجلّها في خرق حقوق الإنسان سجل النظام الشيوعي التي كانت تعارضه، باسم الحريّة وحقوق الإنسان. ووثيقة القمّة العالميّة في عام ٢٠٠٥، والتي دفعت بمبدأ «أر.تو.بي» (أي «الحق في الدفاع عن»)، أي بأن السيادة لا يجب أن تكون مُحترمة إذا كانت حكومة ما تفشل في الدفاع عن شعبها. ولا تفهم دول الغرب هذا المبدأ، يا للصدفة، إلا في تلك الدول التي لا تكون متحالفة مع المصالح الغربيّة.
يحاول أبرامز في كتابه، وفي كتاباته ومقالاته منذ أن ترك الحكم، أن يبرز كنصير لحقوق الإنسان والديموقراطية في العالم العربي. لكن هذا لا يتوافق لا مع تجربته في الحكم، والتي تحدّث عن تجربته في ملف الصراع العربي ـ الإسرائيلي فيها في كتاب «مُختبرٌ من قبل صهيون»، ولا في مواقفه اللاحقة. هو يرفض أن ينسب الغضب الشعبي العربي ضد الحكومة الأميركيّة عبر العقود إلى سياسات أميركا في دعم الاحتلال الإسرائيلي وفي دعم الطغيان في طول العالم العربي وعرضه، ويكتفي بتصديق نظريّة أن العرب «يكرهوننا»، «لأننا أقوياء وأثرياء ولأن تعاملنا مع النساء والجنس يهينهم» 11. وموضوع «لماذا يكرهوننا» يصيب الصهاينة في أميركا بالحنق الشديد، لأن الحديث في ذلك على الصعيد الأكاديمي — لا الصحافي بسبب خنوع الصحافة السائدة هنا والتزامها بالضوابط الصهيونيّة — يجرّ إلى مراجعة ونقد سياسة أميركا في الدعم المطلق للاحتلال الصهيوني. لكن أبرامز يتبنّى مقولة «العجز في الحريّة» الذي طلع به «تقرير التنمية البشريّة العربيّة» لعام ٢٠٠٢. ويبدو أبرامز شديد الإعجاب بالتقرير المذكور، وهو يرد دوريّاً في مقالات توماس فريدمان وذلك لسبب بسيط: هذه التقارير (التي تتلقّى تمويلاً خليجيّاً) تتهرّب عن قصد من تحميل الاستعمار الغربي في بلادنا أي مسؤوليّة، أو تحميل النظام الرأسمالي العالمي أي مسؤوليّة، كما أن كلامها عن الحريّة يأتي عامّاً وضبابيّاً لا يزعج أياً من الأنظمة العربيّة القائمة. وأبرامز، في طريقة استشهاده الدائم بالتقرير، يُقدّر كيف أن التقرير في خلاصته يبرّئ الحكومة الأميركيّة وحروبها. إن تقارير التنمية البشريّة تأتي في السياق نفسه لأدب النقد الذاتي بعد الهزيمة، أي تصبح هزيمة العرب على يد العدوّ الإسرائيلي وحلفائه في الغرب لا علاقة لها بالعدوّ الإسرائيلي ولا بالغرب. أي أن التخلّف العربي بأوجهه المختلفة هو الذي ألحق الهزيمة وليس جيش العدوّ. وعليه، فإن تقارير التنمية التي تسرّ أبرامز وغيره من الصهاينة تعزّز بطريقة مباشرة الثقة الذاتيّة لدول الغرب بصوابيّة سياساتها لا بل بصوابيّة حروبها وغزواتها.
ويراجع أبرامز في كتابه سجلّ الإدارات الأميركيّة المتعاقبة في مجال حقوق الإنسان من عهد جيمي كارتر حتى عهد باراك أوباما. لكن رواية أبرامز تتصف بالمصلحة الشخصيّة: أي إن الإدارات التي عمل فيها تنال علامات عالية مقابل الإدارات التي لم يكن له صلة بها. وقد مرّ مرور الكرام على إدارة جورج بوش (الأب)، ربما لأنها لم تكن على وفاق مع الصهاينة (الجدد والقدماء). وفي تمحيصه لإدارة جورج دبليو بوش، يعمد أبرامز إلى خدعة لا تنطلي: إذ أنه يعتبر أن الخطب عن حقوق الإنسان توفي شروط تمسّك إدارة ما بنشر حقوق الإنسان والديموقراطيّة حول العالم. وعليه، فإن خطب بوش تحظى بعناية من قبله، ربّما لأنه ساهم هو في صياغة أفكارها.
(يتبع)
المراجع
1- الكتاب صادر عن دار نشر جامعة كمبردج. ودور النشر الأكاديميّة الأميركيّة باتت تنشر كتباً لمسؤولين سابقين في الإدارات الأميركيّة بعدما كانت تحرص على حصر النشر بالنتاج الأكاديمي المحض.
2- ٧ آب، ٢٠٠٩، مقالة لي سميث عن وليد جنبلاط.
3- بدأ التدمير في عهد ريغان، لكن إزالة نفوذهم بالكامل تحقّق في عهد كلينتون عندما عيّن قطب اللوبي الصهيوني العريق، مارتن إنديك، مؤسّس «مؤسّسة واشنطن لسياسات الشرق الأدنى»— الذراع الفكريّة للوبي — مستشاراً له.
4- وقد عمل أبرامز في بداياته السياسيّة في مكتب مونيهان.
5- المفارقة أن هذا الأستاذ في جامعة شيكاغو، هو نفسه الذي ألّف الكتاب المعروف ضد اللوبي.
6- لاحظتُ في سنوات دراستي في الجامعة أنها كانت تستعمل كتاب رفائيل باتاي، «العقل العربي» ككتاب مُقرَّر، في مادة «الأمن القومي الأميركي».
7- نشِرت المقالة في المجلّة الصهيونيّة، «كومنتري»، في ١ نوفمبر من عام ١٩٧٩، ثم ضمّتها في كتاب لها بالعنوان نفسه.
8- أبرامز، في «الواقعيّة والديموقراطيّة»، ص ٤٢.
9- راجع ص ٢٣ من كتاب أبرامز، «الواقعيّة والديموقراطيّة».
10- راجع مقالته «معضلات أخلاقيّة في السياسة الخارجيّة»، «وول ستريت جورنال»، ٢٨ شباط ١٩٨٠.
11- كتاب أبرامز، «الواقعيّة والديموقراطيّة»، ص ٦٩.
*كاتب عربي (موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)
نقلا عن جريدة الأخبار اللبنانية