الجديد برس : رأي
صلاح الدكاك
قبيل سفره لحضور مؤتمر المانحين في لندن، عقب تجديد أمريكا عقده لدورة رئاسية جديدة عام 2006، زار علي صالح جامعة (الإيمان)، وألقى من منبرها كلمة قال فيها إن الجامعة (صرح وطني يمني نباهي به)، وفي اليوم التالي وأمام المانحين، قال صالح في كلمة هي وصلة صرف من الشحاذة الرخيصة والتسول المبتذل: (إن لدينا متطرفين وأحزمة ناسفة وانتحاريين وعبوات ناسفة)، ولكل هذه المسوِّغات فإن اليمن (يستحق إغداق المنح المالية عليه)..
وكتب رئيس تحرير (الجمهورية) حينها في افتتاحية الصحيفة الرسمية، يصف اليمن بـ(بالوعة محتقنة ستهدد دول الجوار في حال طفحت)، لذا فإن على حكومات هذه البلدان (دعم حكومة بلدنا تلافياً لأخطار انفجارها الوشيك عليهم)، وكان توصيفه ذاك أنصع وأخلص ترجمة لذهنية سلطة الشحاذة الوضيعة حد ذم وتحقير الذات الوطنية.
خلال عقود حكمه بالإنابة عن المصالح غير المشروعة للغرب وخليج البترودولار، كان (علي صالح) أقرب إلى متسول متحاذق منه إلى رئيس بلد عريق تتوافر له إمكانات الحياة بكرامة ورغد بكد سواعد أبنائه المخلصين وطاقات شعبه ذي العشرة آلاف سنة حضارة، وثرواته المنظورة والخبيئة طي ترابه، والمخبوءة عمداً لحاجة في نفوس أرباب الهيمنة والوصاية وصناديق الإقراض الدولية!
باسم التشوهات والعاهات زاول (صالح) الشحاذة السياسية، وبتنمية ورعاية واستيلاد التشوهات والعاهات، أمكن له البقاء مديداً في سدة لعبة الحكم بالإنابة بوصفه أذكى مخرجات فقاسة الهيمنة الغربية، وأقدر أطفال أنابيب الوصاية على ترجمة مشيئة أربابها في تعبيد اليمن، تكسيراً لمجاديف الطموحات الشعبية وتطلعات النهوض الوطني المقتدر، وتفقيراً للشعب وحطَّاً من اعتداده بنفسه بين شعوب المنطقة، وتبخيساً لقيمته وهدراً لطاقاته، وتفريطاً في سيادته وثرواته ورساميله الطبيعية.
بمنأى عن بتر نهر التاريخ بغية تبشيع حقبة رئاسة صالح وتحميلها كل المسؤولية عن الانحرافات الفادحة والعميقة في مسار الحلم الوطني التحرري النهضوي اليمني ووقوع اليمن كلياً تحت الوصاية، فإن الموضوعية تقتضي تأكيد أن حقبة صالح كانت ـ بطبيعة الحال ـ استمراراً للوصاية الأجنبية الخليجية التي رزحت اليمن تحت نيرها رسمياً في 1971 بتوقيع صك الارتهان للسعودية في صيغة (اتفاقية الصلح بين الجمهوريين والملكيين)، حيث آل حكم البلد بلا منازع لأقنان النفط والعملاء (وصبيان واشنطن) من اللونين الملكي والجمهوري، وحازت الجمهورية باستفراغها من مشروعها التحرري الوطني وسيادتها، على رضا (الديوان الملكي السعودي) واعتراف (الرياض) بها ورضاها عنها.
على أن الحقبة منذ صعود (صالح) للرئاسة في يوليو 1978 وحتى ثورة أيلول 2014، مثلت الطور المديد لرسوخ أكبال الوصاية وخطوطها الحمر ومحاذيرها كسياسة ونهج، لا تعقيب عليه ولا راد لسيرورته الشوهاء، حيث أرَّخت هذه الحقبة للإجهاز التام على ممكنات استمرار الحلم الوطني التحرري قيد الحياة في حناجر المناهضين للوصاية، ساعدها على ذلك دخول المعسكر الشرقي الذي كان موضع تعويل معظم الوطنيين، طور العد التنازلي للأفول والتلاشي، وبزوغ عصر الهيمنة الأمريكية الكونية الكاملة بقيادة المحافظين الجدد.
تملق الشهيد إبراهيم الحمدي القبضة السعودية الأمريكية المطبقة على عنق اليمن ـ إبان حكمه ـ ببعض التنازلات، مقدراً أنه بذلك يمكنه تخليص كل البلد من خناقها، فلقي حتفه على أيدي قفازاتها، فيما قدم (صالح) كل التنازلات للقبضة ذاتها، مقدراً أنه بذلك سيحصل على كل الحكم والسلطة، فوقع فريسة لتقلبات مزاج الأوصياء وتقديراتهم لشكل الحكم وشخوص الحاكمين المطلوبين من مرحلة إلى أخرى ضمن سلطة مراكز الحكم بالإنابة عن حاجات ومصالح الأوصياء المتحولة بلا ثبات!
منذ 1990 الموافق لاتفاقية الوحدة اليمنية، بات اليسار والقوميون رسمياً تحت سقف الطاعة الأمريكية، جنباً إلى جنب مع خصومهم الافتراضيين من يمين وليبراليين سبقوهم في الإيمان بمثل ومعتقدات الامبريالية والسوق الكونية السياسية والاقتصادية، وتبعاً لهذه المتغيرات الجذرية في موازين الصراع دولياً بات الاشتباك بين (صالح وطبقة السيطرة التقليدية) من جهة و(خصوم الأمس) من جهة مقابلة، محض اشتباك نظراء شبيه بتصفيات دوري رياضي بين فرق تتنافس على ملعب (أمريكي) واحد طمعاً في كأس بطولة الحكم بالإنابة من صدارة المشهد لا كواليسه.
في الأثناء كان السؤال الفلسفي الجوهري للعبة السياسية في اليمن على كل المستويات، هو (ما الذي تريده أمريكا وصناديق الإقراض المعولم؟! وكيف يمكن تلبيته لكسب موقع متقدم في لعبة الحكم؟!)، وكان التباري بين طيف المكونات السياسية بلا استثناء يصب في الإجابة على هذا السؤال كقاسم مشترك، في حين أمسى السؤال (ماذا يريد الشعب والبلد؟ وكيف يمكن ترجمة إرادته؟!)، ضرباً من الماضي الآفل، ورجعيةً وتخلفاً عن حركة العصر.
إن زمن (الحكم) في اليمن، منذ 1971م، مروراً بأحط مراحله المتمثلة في حقبة (صالح كتعبير طبقي لا فردي)، كان زمناً أمريكياً لا يمنياً، على كل المصافات، بما في ذلك محطاته التي بدت زاهية كـ(توقيع الوحدة اليمنية)، والتي (شاءت موانئ هنت أن تحبل) حد تعبير الكبير عبدالله البردوني، لتجهض بحبلها ما تبقى من وجدان شعبي جمعي يتشاطر حلماً نبيلاً سامياً في كينونة كريمة ووازنة، فينوب عنه تآكل النسيج الاجتماعي والاحتراب الأهلي لجهة الفناء في أفران الصهر المناطقي والطائفي المعدة أمريكياً لتواكب حاجة الامبريالية في هذا المنعطف من تاريخ مؤشرات انحسار نفوذها في الشرق العربي.
حتى بالنسبة لثورة شعبية ناجمة عن مضاعفات سياسة الوصاية الاقتصادية الأمريكية في اليمن والمنطقة وثائرة عليها، فإنه تم اعتسافها لتغدو ثورة أمريكية لتأبيد الوصاية كمطلب شعبي باسم (ربيع عربي) كان عبارة عن حصان طروادة لتمرير أمريكا من الباب بعد طردها من الشباك، لا أكثر!
إن الضريبة الباهظة التي ندفعها اليوم في مواجهة تحالف قوى العدوان الأمريكي، كشعب حر يسعى جدياً لنيل حريته واستقلاله، هي نتاج طبيعي لمضاعفات زمن الوصاية بعقوده الثلاثة والخمسة المفتقرة بالأساس لأدنى مكتسب أصيل يمكن البناء عليه في هذه المواجهة، حيث يقف الشعب متكئاً على عموده الفقري وأشواقه للنهضة كرأسمال وجودي وحيد، أعزلَ من كل المكتسبات المستعارة والواهية والهبات الممنوحة انتهاباً من عرقه ولحمه وذاته وترابه!
لخمسة عقود ظللنا شعب مهاجرين لا فضل لسلطة الحكم بالإنابة في رفاهنا المكتسب بشق الأنفس، وأصبحنا شعب أنصار لا رفاه لنا بغير الخلاص من ذهنية زمن الحكم بالإنابة وأدواتها وعدوان مديرها التنفيذي الأمريكي.
لا شيء وراءنا لنلتفت متحسرين على ضياعه سوى الأغلال والقيود ومذلة الحظائر وخنوع القطعان..
لا شيء وراءنا سوى الزنزانة، وأمامنا الحرية، ودونها عدوان الجلادين، ولا مناص من أن ننتصر عليه لنكون ما نصبو وما يليق بنا أن نكونه، وثباً من صفرية الوصاية إلى كمال الكينونة!