الجديد برس : رأي
عمر القاضي
لقد أوصلنا العدوان الى حالة لا يعلم بها إلا الله. نمشي على الطاوات، يعني على الحَدِيدة. تشاهد أغلب اليمنيين هنا بدون عمل ومشغولين بالتفكير.
كل ما أعرفه هنا وحده التفكير محظوظ بالانشغال. بعد التفكير العميق رفيقي عبده عقلان قبل مغادرته المقيل يطلبني 50 ريالاً، أرد عليه المعذرة والله ما أملك ريالاً. لا يصدق. يطلبني مرة أخرى: طيب ما فيش معك 100 ريال. مافيش طحين، قال لحي.
صديقي عقلان بسبب التفكير وكعادته يومياً يتغالط ويرتدي أحذية أحد المخزنين، ويبقي أحذيته العتيقة.
يغادر متجهاً نحو منزله، يمشي بخطوات بطيئة ليست كما كانت. أصبح يمشي ببطء، وبين كل مسافة وأخرى يتوقف، يحدث نفسه، كما لو أنه مجنون طارئ لتوه في شارع الدائري. يدخل يده في جيبه يبحث عن بقايا (فليسات) برغم تأكده أنها ناهضت وقاطعت جيبه منذ فترة طويلة بعد أن توقف راتبه وباع كل ما يملك.
لكنه يحاول يومياً تكرار وإجراء هذه الحركة على هذا النحو، ولا يكل. يدخل يده في جيبه فتخرج بيضاء فاضية. ثم يستمر بالمضي تجاه سكنه الذي يتجاوز بوابته بأمتار، ثم يتذكر أنه تجاوزه، ليعود يطرق باب منزله. ترد عليه زوجته: من؟ يرد أنا. زوجته تسأله من أنت؟ يرد أنا. لم يستطع حتى نطق اسمه. أما أسماء أطفاله تلخبطوا عليه جميعاً، أحمد ابنه الكبير يناديه محمد، وعرفات يناديه عارف.
هكذا نبدو كيمنيين ملخبطين ومرهقين كثيراً. نتسابق لنمسح وجوهنا قبل أيادينا في مغاسل المطاعم، لطرد إرهاقنا المتدلي. نخزن يومياً ونشرب البروفنيد والبندول لنكافح إرهاقنا. نشرب الدخان بشغف وبدون فواصل، وننزعج من التحذيرات الصحية عليها. نرقد ساعات طويلة محققين بذلك أرقاماً قياسية. لا يعلم أحد وضعنا الحقيقي جيداً، حتى المنظمات الدولية تصدقوا أنها لاتعرف شيئاً عنا، وإلا لما أصدرت بيانات شبه حيادية يتم وصفنا فيها بعبارة تقول إن اليمنيين يعيشون (صراعاً داخلياً). 3 سنوات يلبجوننا بأحدث الأسلحة، والمنظمات تمكنك صراع داخلي!
الصدق قد نحنا (مغثيين) من عبارة الصراع الداخلي يا منظمات، هذه العبارة التي يتم تكرارها من قبل مسؤولي المنظمات الذين يبدو أنهم محرجون أن يقولوا ببياناتهم المملة إن اليمنيين قد وصلوا إلى (جحر الحمار الداخلي)، بالمختصر يتعامسوا معاناتنا.
بالفعل نحن هنا صامدون منهكون داخل الجحر الداخلي.
لا أحد يعرف تفاصيل معاناتك يا يمني وأنت دخل الجحر الداخلي، وأنت تعيش على وجبة واحدة طوال يومك. وجبة مفرغة من جميع الفيتامينات، ويطلبون منك أن تخرج من الجحر سالماً متعافياً. يتبرعون لك بقمح أسود وطابونة مبللة بالماء ومحشوة بالسوس. يمنحونك كيس حليب أطفال منتهي الصلاحية. ثم يحذرونك ببيان أن أطفال اليمن يعانون من سوء تغذية وسوء هضم.
في الجحر الداخلي ستشاهد موظفاً يمنياً يرتدي فنيلة رياضية لمنتخب الأرجنتين من دون رقم، وهو يجري في الشارع هارباً من عشرات الذين يسألوه (زلط).
فالعالم لا يعرفون عن ارتفاع أسعار المشتقات النفطية والمواد الغذائية، وأن تلك القطعة المثلثة الصغيرة (جبنة سالم ربيع) تباع بـ35 ريالاً.
هنا في الجحر الداخلي محلات الصرافة تزدهر. والإذاعات المحلية تتكاثر أيضاً، لتبث برامج إذاعية وإعلانات متشابهة، فإعلانات الزعقة والزيوت التركية تبث في كل الإذاعات. هنا في الجحر الداخلي ستسمع إعلاناً لخلطة شعبية تكافح الطفر والصلع. أما إعلان (سمن الجبلي) الذي أنتج في عهد اللقية والقردعي، فإنه ما يزال صامداً متعافياً، ويبث في الإذاعات والقنوات الفضائية المحلية منذ الثمانينيات، ولم ينقطع.