المقالات

كيف فاجأ اليمن عاصفة الحزم بإستراتجية عبقرية؟

الجديد برس : رأي 

فيصل جلّول

“يجب أن تزعم الضعف لتقهر عدوّك المأخوذ بالغطرسة”.. في مطلع عامها الرابع تستدعي الحرب السعودية على اليمن العودة إلى بديهيّات عِلم السياسة وعِلم الحرب لقياسِ سيرورتها ونتائجها. نبدأ من شنّ هذه الحرب بطريقة غادِرة ومُفاجئة للجميع ومن دون مُبرّرات مُعلَنة أو سياسات مُسبَقة.

الأمر الذي يتناسبُ مع مقولةِ “صن تزو” ، الجنرال الصيني (عاش في القرن السادس قبل الميلاد) ، إذ يرى أن ” فن الحرب يقوم على الخِدعة ” لكنه لايتّفق مع ما ذهبَ إليه نيقولا مكيافيللي مؤسّس عِلم السياسة الذي يعتقد أن ” الحرب تكون عادِلة عندما تكون اضطرارية فقط” ، أي أن الخِدعة توفّر لك عنصر المُفاجأه لكنها ليست بوليصة تأمين للانتصار أو للتحكّم بمسارِ الحرب كما سنُلاحظ بعد قليل.

إن النظرَ إلى الحربِ على اليمن بعينِ مكيافيللي يُفيدُ بأنها لم تكن اضطرارية أبداً. ما كان أحدٌ في هذا البلد يُهدّد أو يستعدّ أو يرغبُ في إعلانِ الحربِ على المملكة العربية السعودية، لا سيما وأنها كانت قد فرغت لتوّها من تمويلِ الحوارِ بين الأطرافِ اليمنية المُتنازِعةِ على السُلطة، أي بين أصدقائها. فلا عدوّ لها بين المُتفاوضين، بما في ذلك “أنصار الله” الذين عقدوا اتفاقاً مع الأمير خالد بن سلطان نائب وزير الدفاع السعودي عام 2009 ينصّ على عدم اقترابهم من الحدودِ السعوديةِ مُقابل امتناع المملكة عن الاعتداء عليهم.

كانت التطوّرات اليمنية التي سبقت الحرب تصبّ كلها في مصلحةِ المملكةِ العربيةِ السعودية التي انتزعت السُلطة من الرئيس الراحِل علي عبدالله صالح، وأدخلت الأخوان المُسلمين إلى الحُكم وعيّنت رئيساً انتقالياً. وافتتحت ورشةً لصوغِ دستورٍ جديدٍ بإشرافٍ فرنسي، في حين تولّى السفيرُ الأميركي في صنعاء التنسيقَ مع الجيشِ اليمني في الحربِ على الإرهاب، وأشرفَ سفيرُ بريطانيا على الحوارِ الوطني. وكان من المُفترَض أن تُباشِر القوى السياسية اليمنية تطبيق ما اتّفقَ عليه، لولا التقسيم الإداري للبلادِ إلى ستةِ أقاليم شبه مُستقلّة عن بعضها البعض، وهذا المطلبُ ما كان مرفوعاً البتّة خلال ما سُمّيَ بـ “الربيع العربي”. وقد تبيّنَ من بعد أن المملكة كانت تُضمرُ بواسطته فرض الحصارِ التام بموجب الدستور الجديد على أقصى الشمال اليمني ذي الأكثرية الزيدية، لربط النزاع مع المُحافظات الوسطى والجنوبية، وبالتالي تحطيم تجربة التعايُش المُعمّرة بين الزيود والشوافع. فكان أن اصطفّ المُتضرّرون من هذا التخطيط الإداري، وقلبوا الرئيس المؤقّت عبد ربه منصور هادي ومن ثم عرضوا على المملكة تطبيق كل مخرجات الحوار الوطني، لكن ضمن دولة اتحادية من اقليمين بدلاً من ستةِ أقاليم.

ردّت السعودية على هذه الحركة المشروعة بحربٍ ظالمةٍ دمّرت خلالها وما زالت كل مقوّمات الحياة اليومية في هذا البلد.

لم تكن الحرب السعودية على اليمن اضطرارية. فهي إذن ليست عادِلة، وشأنها شأن الحروب الظالِمة التي غالباً ما تكون مُخادِعة واستباقية ولا تُكلَّل بالنجاح، خصوصاً إذا ما طال أمدُها بحسبِ “صن تزو” ، الذي يرى أنه ” لم تحقّق أمّةٌ واحدةٌ في العالمِ نتائجَ باهِرة من حربٍ طويلة”. معلومٌ هنا أن الرياضَ كانت تظنّ أن الحربَ ستستغرقُ أسابيعَ محدودة ولن تتعدّى عامها الأول، فإذا بها تلجُ السنةَ الرابعة وسط صمودٍ يمني أسطوري ليس مُفاجِئاً للذين يعرفون تاريخَ هذا البلد وتقاليد وعادات شعبه وبخاصةٍ تجاربه المُظفّرة في طردِ المُعتدين من أرضه.

تبدو السعودية في هذا الوقت وكأنها أسيرةُ الحربِ وعاجِزة عن أنهائها بالطريقة التي تريدها، الأمر الذي يتوافقُ أيضاً مع قاعدةٍ أخرى ذكرها مكيافيللي في كتابِ الأمير” يمكن لك أن تشنّ الحربَ ساعةَ تُريد لكن لن تنهيها عندما تُريد وإنما عندما تسنح الفرصة لإنهائها”.

لن يوفّرَ اليمنيون للتحالف السعودي الفُرصةَ المُلائِمة لإنهاء الحرب إلا بشروطهم التي تنطوي على تحميلِ المُعتدي كلفةَ أضرارِ الحرب، والقبول بصيغةِ الدولةِ الاتحادية من اقليمين، والامتناع عن التدخّلِ في الشؤونِ الداخليةِ اليمنية. ولعلّ رفض التحالف وقفَ الحربِ بهذه الشروط يعني إطالة زمنها إلى أن يكتشفَ المُعتدي أن الوقتَ لا يلعبُ لصالحه فيُقرّ بمسؤولية عدوانه ويرحل اليوم قبل الغد.

عندما لا “يخضع الخَصمُ لإرادتِك بواسطةِ العُنفِ” كما يقولُ الجنرالُ الألماني كلاوزفيتز، يجدرُ بكَ أن تختارَ اللحظةَ المُناسبة لإنقاذ ماءِ الوجه ولتجنّب انتقال الحرب إلى أراضيك، كما اتّضحَ من خلالِ موجاتِ الصواريخِ اليمنية التي انطلقت نحو مواقعَ استراتيجية في عددٍ من مدنِ المملكة، من دونِ أن تتمكّن صواريخ باتريوت من اعتراضها أو لربما اعتراض القسم الأكبر منها. وهذا تطوّرٌ خطيرٌ في السنةِ الرابعةِ للحربِ يُفصِحُ عن انكشافٍ عسكري لا سابقَ له.

حتى هذه اللحظة، يبدو أن المملكةَ السعودية ما زالت مُصرّةً على كَسْبِ الحربِ وإنهائها بشروطها، إي إهمال قاعدة الحرب الذهبية المُشار إليها للتوّ، ما يعني المزيد من الخسارةِ والمُخاطرةِ باتّساعِ نطاق الحرب داخل أراضيها ، خصوصاً أن اليمنين قد خسروا كل ما يملكون ما خلا كرامتهم وتصميمهم على الدفاعِ عن بلادِهم حتى الرمَق الأخير.

على الرغم من تواضعهم، إلا أن نسبةً ملحوظةً من النُخبةِ اليمنيةِ التقليدية تتمتّعُ بعبقريةٍ محليةٍ قد تعصى على مُستطلعي الرأي ومُحلّلي حركات الشعوب ودارسي قُدراتها وطاقتها. لقد لاحظنا هذه العبقرية الكامِنة منذ شهورِ الحربِ الأولى التي بدأ خلالها الطرف اليمني المُقاوِم للعدوانِ عاجزاً عن الردِّ على طوفانِ الصواريخِ المُنطلِقةِ من الطائراتِ الحربيةِ الأحدث في العالم، حتى بدا للقاصي والداني إن الحربَ ستُحسمُ خلال أيامٍ أو أسابيع، فكان أن فاجأت المقاومة اليمنية قادة “عاصفة الحزم” باعتمادها قاعدة أخرى من قواعدِ الحرب ، ذكرها “صن تزو” بقوله “يجب أن “تزعم الضعف فتهزم عدوّك المأخوذ بالغطرسة “.

لا أدري إن كان قادة المقاومة الوطنية اليمنية قد قرأوا قواعدَ عِلم السياسة والحرب عند “صن تزو” أو “كلاوزفيتز” أو “مكيافيللي” لكن ما أعرفه أنهم يخوضون حرباً دفاعية ناجِحة عن بلادهم. والثابتُ في تاريخ الحروب أن الطرفَ المُدافِع يتمتّع بأفضليةٍ على المُهاجِم، فكيف إذا ما كان المُعتدي ضعيفَ الخبرة والإدارة والإرادة في القتال وإن كان يستخدمُ أحدثَ الأسلحة في العالم، تلك التي أخفقت في إخضاعِ فقراءٍ يمتشقونَ الكلاشينكوف في جبالهم ووديانهم مُصمّمين على الدفاعِ عن أرضهم حتى الرمَق الأخير.

باحث لبناني مقيم في فرنسا

نقلاً عن الميادين نت