المقالات

أصل الخلاف

الجديد برس : رأي

محمد طاهر أنعم

يبدو أن الخلاف والتمزق في طبيعة البشر، وخاصة حين ضعف وتراجع الحضارة والنهضة، ودخول الأمم في مرحلة الخمول والكسل.
الذي يتأمل تاريخ أي حضارة من الحضارات أو دين من الأديان السابقة، سواء كانت سماوية أو وثنية، يجد أن الاختلاف والتمزق يحصل في فترات الانحدار والضعف والتخلف ويشتد، ويخف ويتراجع في وقت القوة والنهضة.
حصل هذا الأمر في الحضارة اليونانية الإغريقية والرومانية، وحصل عند الديانة اليهودية والنصرانية والبوذية.
وقد يكون الاختلاف داخل أمة من الأمم أو جماعة من الجماعات عقوبة إلهية بسبب مخالفات وتجاوزات وجرائم تقع فيها تلك الأمة أو الجماعة، مثلما قال الله عز وجل عن النصارى: {فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة}، أي أن الله عز وجل سهل لهم سبل الاختلاف والعداوة، بسبب إعراضهم عن المواثيق التي أخذها عليهم بالالتزام بالتوحيد وعدم دعوى أن لله ولداً.
ولذلك نجدهم تفرقوا منذ وقت مبكر (القرن الرابع للميلاد) إلى كاثوليكية وأرثوذكسية، كلّ منها تكفر الأخرى، ثم انقسمت كل فرقة إلى فرق، كان منها في بلاد العرب قبل الإسلام (القرن السادس للميلاد) عدة فرق محلية، منها اليعقوبية والنسطورية والأريسية، ثم استمروا في التفكك لاحقا لتنشأ فرقة البروتستانتية التي تشكل اليوم غالبية سكان الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا، وانقسمت الكاثوليكية إلى الكاثوليكية الرومانية التي تشكل غالبية سكان فرنسا وإيطاليا وإسبانيا وأوروبا الغربية، والأرمن الكاثوليك في أرمينيا ولبنان، وانقسمت الأرثوذكسية إلى أرثوذكسية الأقباط المصريين، وأرثوذكسية موسكو والتي بدورها انقسمت إلى قسمين، وانقسمت الكنسية البروتستانتية إلى كثير من الكنائس مثل الإنجيلية والسوداء وغيرها.
وقد حذر الله عز وجل المسلمين في كتابه الكريم من أن يفعلوا مثلما فعلت تلك الأمم لما انحرفت وضلت عن طريق الله فتفرقت أحزاباً وفرقاً وجماعات، كانت كل منها بما لديها فرحة ومعتزة وتكفر غيرها، فقال الله تعالى للمسلمين: {ولا تكونوا من المشركين، من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا، كل حزب بما لديهم فرحون}، وقال سبحانه وتعالى: {ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءتهم البينات}.
وحرص القرآن الكريم على إطلاق مسمى (المسلمين) فقط ودون غيره على المنتمين للدين الجديد الذي نزل به القرآن الكريم على محمد صلى الله عليه وسلم، كما قال الله عز وجل: {هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس}.
وعاش النبي صلى الله عليه وسلم فترة دعوته لربع قرن بين الناس، ولم يكن لهم تسمية دينية غير الإسلام، رغم وجود الشعارات القبلية والاجتماعية الطبيعية، والتي لم تكن ممنوعة إلا في حالة وصولها للصدام والاختلاف، فتصير مرفوضة.
ففي إحدى المرات خرج النبي صلى الله عليه وسلم على جماعة في سوق المدينة وهم يكادون يتضاربون، بعدما جاءه بلاغ عاجل من شخص شاهدهم، فجاءه للبيت يقول له: أدرك الناس في السوق يا رسول الله. ولما سأله عن السبب، قال: ضرب رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار، فصاح المهاجري: يا للمهاجرين، وصاح الأنصاري: يا للأنصار، فاجتمع قوم من هؤلاء وقوم من هؤلاء، ويكادون يتقاتلون.
فخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم مسرعاً حتى جاء السوق، فقال لهم: أبدعوى الجاهلية وأنا بين ظهرانيكم!! دعوها فإنها منتنة.
ويقصد (بدعوى الجاهلية) الدعوة للاقتتال والفتنة تحت مسميات متنوعة.
واستمر النبي عليه الصلاة والسلام في منع أي اختلاف أو اقتتال بين الناس، حتى توفي بعد ربع قرن من بداية دعوته التوحيدية، ولم تظهر مسميات الفرق، مثل سنة وشيعة، أو صوفية وسلفية، أو أشعرية ومعتزلية، أو حنبلية وشافعية وزيدية وحنفية، أو غيرها. وإنما ظهرت هذه المسميات لاحقاً، لتصبح أول بذور تفريق المسلمين وتفكيك الإسلام، بعضها نشأت بشكل عادي ودون نية سيئة للتفريق، وبعضها نشأت بنية سيئة من الأساس.
ودخل الكثير من المسلمين في ما نهاهم الله عنه في القرآن الكريم، من التفرق والتنازع والاختلاف.
وكان الناس متفاوتين في هذا المجال، بعضهم متطرف ومتشدد، وبعضهم أقل تشدداً وأكثر اعتدالاً، وبعضهم بعيد عن هذا التعصب، وبعضهم محارب له ومناهض.
كان من أبرز وأهم أسباب انتشار التفرق والتعصب بين المسلمين منذ وقت مبكر المصالح الشخصية والسياسية والاجتماعية لبعض الأشخاص والدول والجماعات والمناطق، فاندفع البعض لهذه المسميات ونصرتها لتحقيق منافع معينة، إما وجاهة ومكانة ووظائف وجماهيرية لبعض المشايخ والفقهاء والعلماء، وإما توسع وقوة وسيطرة وإقصاء للمخالف لبعض الدول والولاة، وإما تحشيد ضد الأنظمة والدول لبعض الجماعات المعارضة والثورات الشعبية والجهوية والقبلية، أو لغيرها من الأسباب.
وصار تعدد وتفرع تلك الجماعات شيئاً طبيعياً متكرراً في كل عصر. وعلى سبيل المثال (لا الحصر) فقد انقسم المسلمون سنة وشيعة، وانقسم السنة لاحقاً معتزلة وأثرية، ثم انقسم الأثرية إلى حنبلية وأشعرية وماتريدية، وهكذا، وانقسم الشيعة إلى جعفرية وزيدية، ثم انقسم الجعفرية إلى اثناعشرية وإسماعيلية، ثم انقسم الإسماعيلية إلى دروز ومكرمية، ثم انقسم المكرمية إلى داودية وسليمانية… وهكذا، وانقسمت الجماعات السنية السلوكية إلى سلفية وصوفية، ولكل منها طرق وتيارات كثيرة.
وأصل كل هذا الخلاف (الممقوت والمرفوض) هو الصراع على السلطة والثروة، مهما حاول أصحابه تغليفه بغلافات أخرى، وهذا ما لا يريد جميع قيادات المذاهب والتيارات والجماعات الاعتراف به، للأسف الشديد.