العبث بمصير الجرحى
لم يكن العبث بمصير عشرات الجرحى في تعز والمتاجرة بهم، على الرغم من الدعم الكبير الذي تحصل عليه بعض اللجان الطبية والمستشفيات في المحافظة، سوى واحد من الملفات المعقدة والشائكة، الذي شابه الكثير من الاختلالات والأدوار المشبوهة، إبتداءً من لجان الجرحى التي يسكن دهاليزها فساد عريض، من إختلاس ومحسوبية، وصولاً إلى تسفير عناصر خارجة عن القانون ومطلوبة أمنية، في الوقت الذي لا يزال الكثير من الجرحى ينزفون كل يوم ألماً وقهراً ووجعاً، ولا بصيص أمل، في ظل عجز واضح من قبل حكومة الرئيس عبدربه منصور هادي، وتقاعس «التحالف» عن إيجاد حل لمعاناتهم المتفاقمة.
خليل محمد سعيد، مقاتل سابق في صفوف القوات الموالية للرئيس هادي في تعز، ومن أوائل الشباب الذين خرجوا مع قائد «المقاومة الشعبية»، حمود المخلافي، يرقد في منزله منذ عام جراء إصابة في إحدى المعارك.
يقول خليل، في حديث إلى «العربي»: «كنت من أوائل الشباب الذين خرجوا مع الشيخ حمود سعيد المخلافي، وكنت ضمن مجموعة مكونة من 15 فرداً، نقاتل في شارع الأربعين بجهة كلابة، بقيادة الفندم عبد العزيز مدهش».
ويضيف «أصبت بطلقة قناص في إحدى الهجمات على مواقع الحوثيين، في رجلي اليمنى، وتم إسعافي في حينها إلى مستشفى الروضة، وكان الأطباء قد ارتأوا أن أسافر بشكل عاجل إلى الخارج، تفادياً لبتر ساقي، إلا أني رفضت السفر، وحاولت أنا وأحد أقربائي، المغامرة فوق دراجة نارية، والتسلل إلى مستشفى اليمن الدولي، من أحد الممرات الخطرة، وحينما عاين الطبيب المختص حالتي، قال: لا تحتاج إلى بتر، هناك التهابات في الأوردة، وبالإمكان معالجتها في الخارج، ولا داعي للبتر».
ويتابع «الآن أنا طريح الفراش منذ قرابة عامين ونصف العام. قدمت ملفي الطبي إلى أكثر من لجنة طبية ولكن بلا جدوى إلى اليوم». ويزيد: «حالتي الطبية تزداد سواءً يوماً بعد الآخر، وأحتاج للسفر إلى الخارج كما قال لي الأطباء، وكل اللجان التي قدمت لها وعدت بتسفيري، وإلى الآن لم أسافر». وبمرارة وألم في صوته المخنوق بالدموع، يتمنى خليل أن «أرجع أمشي مثل أول وأعود للجبهة». قصة خليل واحدة من بين مئات القصص لجرحى عناصر القوات التابعة لهادي في تعز، تنتهي جميعها عند الإهمال المتعمد من قبل «الشرعية» لجرحاها.
صدام الشرعبي، هو الآخر يعاني جراء إصابته بطلقة نارية في العمود الفقري، أثناء اشتباكات في إحدى جبهات الحرب غرب المدينة، قبل نصف عام. يؤكد صدام، في حديث إلى «العربي»، أنه «منذ إصابته لم يتلق أي مساعدة من قيادة المحور التي كان يقاتل في صفوفها أو اللجنة الطبية، بل يتلقى عود زائفة بمنحة علاجية».
ويضيف: «أحتاج إلى زراعة فقرة في العمود، وقد قابلت أكثر من ثلاث لجان طبية، تنتهي بوعود كلها كاذبة»، مشيراً إلى أن «من يتم تسفيرهم هم أولاد المسؤولين والمقربين منهم، حتى من لم يصابوا بالجبهات». ويلفت إلى أنه «تلقى عرضاً من أحد السماسرة المقربين من اللجنة الطبية، بأن يدفع مبلغ ألف دولار، وهو مستعد أن يعطيه منحة علاجية إلى السودان، إلا أنه لم يستطع دفع المبلغ».
علاقة مشبوهة
وكشفت مصادر طبية لـ«العربي»، أن «بين وزارة الصحة واللجنة الطبية في تعز علاقة اختلاس ونصب، فالوزراة تأخذ مقابل كل عقد جريح من اللجنة الطبية مبلغ 1000$، في حين تأخذ اللجنة الطبية 1000$ آخر، بمعنى أن العقد الموقع بين مركز الملك سلمان والمستشفيات في المدينة، يذهب منه مبلغ 2000$ لصالح الطرفين، ولم يصل المستشفى سوى 4000$ من أصل 6000$».
وأوضحت المصادر أن «وزير الصحة حسن باعوم، استبعد لجنة الرقابة على جرحى تعز، رئيس اللجنة الطبية السابق، بسبب رفضه تسليم دفعة من تلك الأموال التي تم اختلاسها».
وأضافت أن «الاختلاسات والرشاوى والمحسوبية في اللجنة الطبية ووزارة الصحة لا زالت مستمرة، وحتى بعد تعيين رئيس جديد للجنة الطبية، وهناك علاقة مشبوهة بين الطرفين يدفع ثمنها الجرحى»، مشيرة إلى أن «معظم المستشفيات التي تم التوقيع معها العقود، وتشرف عليها اللجنة الطبية، تستقبل حالات لا تخضع لشروط ومعايير العقود».
إختلاس
ويشكو الكثير من الجرحى الذين تم تسفيرهم إلى الخارج من سوء المعاملة وإختلاس مبالغ مالية باهظة منهم. «العربي»، حصل على نسخة من شكوى تقدم بها الجريح عمروس الصمدي، لمحافظ تعز، ورئيس اللجنة الطبية إيلان عبد الحق، وقائد المحور.
وجاء في نص الشكوى، أن «المسؤول المالي للجنة الطبية لجرحى تعز في الهند، حاول الإعتداء عليه، وانهال عليه بموج من الشتائم والسباب، بسبب مطالبته بمستحقاته التي قال إنه رفض أن يسلمها لهم بالدولار كما هو الإتفاق، بل قام بتسليمها بالعملة الهندية، واختلاس فارق الصرف (2250) روبية من كل جريح».
تسفير عناصر إرهابية
انفلات أمني في تعز، رافقه إنفلات طبي آخر، قائمة أشخاص مطلوبين أمنياً لم يتم القبض عليهم، وإنما تم مكافأتهم وتسفيرهم للعلاج لأسباب طبية.
مصادر طبية، كشفت في حديث إلى «العربي»، عن أن «اللجنة الطبية قامت بتسفير بعض العناصر الإرهابية والمطلوبين أمنياً من المدينة للعلاج في دولة السودان، وآخرين للعلاج في الهند».
وأكدت المصادر، أن «أحد تلك العناصر، القيادي في تنظيم القاعدة، أنس عادل، الذي قتل أخوه في غارة جوية بطائرة أمريكية من دون طيار في أبين، قبل عام ونصف العام تقريباً».
وأوضحت المصادر أن «أنس عادل تسبب للبعثة الطبية إلى السودان بالكثير من المشاكل، وتم طرد وترحيل عدد من الجرحى بسببه».
وأضافت أن «أنس كان يأخذ طيور الحمام من سطح المستشفى، ويقوم بجمع عدد كبير منها، ويقوم بتقطيع رقابهن ويأخذ دمائهن ويرسم به شعار التنظيم على جدران المراحيض، كما أنه قام بوضع لواصق شعار التنظيم في المطار، وفوق نوافذ الطائرة، وكان يقول إنه يمتلك أسلحة كاتمة للصوت، وأنه يريد أن يقتل المرتدين والكفار».
وأشارت المصادر، إلى أن «إصابة أنس عادل لم تكن في الجبهات، بل كانت بنيران صديقة»، وتسألت قائلة: «لا ندري كيف تم تسفير هذه العناصر الإرهابية والمطلوبة أمنياً؟ ومن هي الجهة التي قطعت لهم الجوازات؟ ولماذا لم يتم إلقاء القبض عليهم في المطار؟ وهل سيعودن أم أن تسفيرهم كان هروباً من المقصلة».
وفي السياق، كشفت مصادر طبية أخرى لـ«العربي»، عن أن «المدعو أنس عادل، تم تسفيره إلى السودان عبر وزارة الصحة، ومركز الملك سلمان»، مشيرة إلى أن «الذي تولى التنسيق له في مدينة تعز، القيادي في حزب الإصلاح نبيل جامل، شقيق وكيل المحافظة عارف جامل، وفارس العبسي».
«العربي» بدوره، حمل معه كل هذه التسألات، بشأن ملف الجرحى، إلى رئيس اللجنة الطبية للجرحى، ووكيل محافظة تعز للشؤون الصحية، الدكتورة إيلان عبد الحق، والتي بدورها أوضحت أن «ملف الجرحى يعتبر من أصعب الملفات الموجودة في الطاولة اليمنية بسبب الحرب، التي خلفت أعداداً كبيرة جداً من الجرحى. ففي المناطق الخاضعة تحت سلطة الشرعية في تعز فقط، تجاوز عدد الجرحى منذ بداية الحرب في العام 2015 وحتى اليوم، الـ 21 ألف جريح، منهم 70% متماثلون للشفاء، و30% لديهم إعاقات دائمة، ويحتاجون للعلاج في مراكز طبية متخصصة، إضافة إلى ضعف البنية التحتية الموجوده داخل اليمن ككل، وليس في تعز فقط».
وأكدت عبد الحق، في حديث إلى «العربي»، أن «اللجان الطبية السابقة شابها الكثير من الإرباك والفوضى مثل حل بقية الملفات والتشكيلات الأخرى، ولذلك لم تكن المخرجات بالشكل المطلوب، لكن قبل 6 أشهر، تم تشكيل لجنة طبية في محافظة تعز، من رئاسة الوزراء، على غرار لجنة مأرب وعدن، وخصص لها مبالغ مالية، والآن تتعامل مع ملف الجرحى، ونحن لا نقول إننا فعلنا شيء يُذكر، ولكننا بدأنا بحلحلة بعض الأمور، جمعنا قاعدة بيانات، إذ فرزنا الحالات التي تماثلت للشفاء، والحالات التي تحتاج إلى السفر، والحالات التي سيتم معالجتها هنا، وقدمنا هذه الدراسة لمكتب رئيس الوزراء».
وكشفت وكيل محافظة تعز للشؤون الصحية، أن «مكتب الصحة في تعز، التابع لوزارة الصحة، مغيب عن ملف الجرحى تماماً، وليس له أي دور، وحتى مدير مكتب الصحة أصدر له قرار يقضي بأن يكون عضو في اللجنة الطبية فانسحب».
وتسألت: «لماذا حييدت وزارات الدولة في ملف الجرحى؟»، واستهجنت، من حديث بعض من وصفتهم بـ«المأجورين»، عن محسوبية وتجاوزات وفساد، في اللجنة الطبية، قائلة: «نحن لدينا مجموعة فنية من المستشارين الأطباء المتخصصين، والذين ليس لديهم ميولات حزبية ولا عسكرية، وهي التي تقرر سفر الجريح بحسب الألوية القصوى، بلا محسوبية أو أية تجاوزات»، مضيفة أن «الأمور المالية تتم عبر لجنة مالية من وزارة المالية، وهذه اللجنة مشكلة من نائب وزير المالية، وهي التي تشرف على الصرف سواء في الداخل أو الخارج، ولا يتم أي صرف فردي أو عشوائي، بل يتم الصرف بمحاضر اجتماع وبحضور الجميع».
وحول قضية تسفير أفراد مطلوبين أمنياً إلى الخارج، عبر اللجنة الطبية، أكدت أن «المدعو أنس عادل، تم تسفيره عبر مركز الملك سلمان من قبل لجنة طبية أخرى، قبل أن تشكل اللجنة الطبية للجرحى والتي أترأسها حالياً»، مضيفة أن «اللجنة الطبية، هي لجنة حكومية مشكلة من رئاسة الوزراء، ولا تتعامل بالتخريص، بل تتعامل بمذكرات رسمية».
وأفادت بأن «اللجنة الطبية لم تتسلم حتى الآن أي قائمة بأسماء أشخاص مطلوبين أمنياً، لا من القطاعات العسكرية ولا الأمنية ولا وزارة الداخلية، وليست اللجنة الطبية فقط، بل مكتب الجوازات».
وتتابع «أنا شخصياً ذهبت إلى مدير مكتب الجوازات منصور العبدلي وسألته، هل لديكم قائمة بأسماء أشخاص مطلوبين أمنياً علشان تعمموها على النقاط الأمنية؟ فقال: ليس لدينا أي قائمة مطلوبين أمنياً»، مشيرة إلى أن «اللجنة تعمل تحت إشراف مباشر من قيادة المحور والمنطقة العسكرية الرابعة، ولا يتم تسفير أي جريح قبل أن يتم تنقله في النقاط، إلا بعد أن نقدم رسالة رسمية لقيادة المحور. وقيادة المحور تقدم رسالة للمنطقة العسكرية الرابعة، ومن ثم يتم مطابقة الأسماء والسماح بمرورهم عبر النقاط والمطار».
لا يزال جرحى تعز من وقت لآخر، يتكئون على عكاكيزهم المهترئة، في مظاهرات ووقفات احتجاجية متكررة للمطالبة بعلاجهم والتخفيف من معاناتهم، لكن لا حياة لمن ينادون، فالحكم هو الجلاد، ولا عزاء للضحايا.