الجديد برس : رأي
صلاح الدكاك
استنفد تحالف العدوان مهلة الشهرين التي منحها إياه (مارتن غريفتث) لدى مباشرة الأخير عمله رسمياً كمبعوث أممي إلى اليمن، وعقب زيارته الأولى لصنعاء، غير أن تحالف العدوان تجاوز المهلة الزمنية السخية بأسابيع دون أن يحدث تحولاً ميدانياً يتيح للأمم المتحدة انحيازاً آمناً لجهة أجندته اتكاءً على معطيات الأمر الواقع.
واليوم فإن المبعوث الأممي يعاود زيارة مسرح الاشتباك العسكري، ملوحاً بورقة (الحل السياسي) و(إحياء مفاوضات السلام) من جديد، وهي دعوة رحبت بها (صنعاء) خلال الزيارة الأولى للمبعوث إليها، فلماذا لم يجر حينها تثمين هذا الانفتاح المبدئي لـ(صنعاء) على الحوار أممياً، وترجمته إلى خطوات عملية؟! وما الذي استجد لتعاود المنظمة الأممية طرح الدعوة إلى (إحياء المفاوضات) على مناضد طرفي الاشتباك في هذا التوقيت؟!
المؤكد أن (العملية العسكرية الخاطفة) التي شنها تحالف العدوان لـ(تحرير الحديدة)،
واستغرقت أكثر من شهرين، قد فشلت، ولم تفسح أفقاً مواتياً لانحياز أممي يملي معه (غريفتث) شروط التحالف على (الحوثيين المحشورين في زاوية انعدام الحيلة عسكرياً وسياسياً وشعبياً ولا سبيل أمامهم سوى الاستسلام)..
ولأن أمنيات لئيمة وصبيانية كهذه كانت ولا تزال بحكم المحال، ولاحتواء التداعيات السلبية العميقة على التحالف والناجمة عن فشل (عمليته الخاطفة)، فإنه لا مناص من أن يحقن (غريفتث) مفاصل الاشتباك العسكري بـ(مورفين الدعوة لمشاورات سياسية) بغية تمسيدها لجهة تعافي تحالف العدوان من عجزه الفاضح، ونقل الاشتباك إلى ميدان السياسة مؤقتاً!
تبعاً لهذا الفهم فإن أية جولة سياسية تفاوضية قادمة قد تنعقد، لن تكون -من حيث الغاية المقصودة بها- إلا مهلة زمنية أخرى تمنحها الأمم المتحدة لتحالف العدوان حتى يتجاوز حالة المراوحة في عجزه الميداني صوب تحقيق اختراق يجعل من كلمة القوى الاستعمارية هي العليا في مقابل شعب يدافع عن حريته واستقلاله وسيادته وسلامة ووحدة ترابه؛ وهو ما لم يكن ولن يكون، فالكلمة العليا لا تزال ميدانياً وستظل لأبناء التراب الذين لم يعولوا يوماً على نجدة الأمم المتحدة ولا شفقة العالم المنافق، بل عكفوا يتخندقون في الذرى والسهول والشواطئ، ويضربون بيد الله تحالف قوى الاستعمار والاستكبار، ويسقون سنديانة الكرامة زكي الدم؛ وفي السياسة، كما في الميدان، فإن اليد الضاربة العليا تبقى لأبناء التراب، والتحالف يخسر ويتشظى!
تحالف العدوان الذي خابت أمانيه وأخفقت حساباته على أكثر من مستوى (عسكري، إنساني، سياسي وإعلامي) في معركة ما يسمى (تحرير الحديدة)، يعوزه إعادة لصق أجزاء جسده الضخم الزاحف الذي تناثر أوصالاً باتساع البر الضيق المتاخم للبحر الأحمر من (المخا) جنوب غرب إلى أطراف (الدريهمي) غرباً، وهي المساحة الطولية التي اندلق فيها زحف التحالف الأضخم بصبيانية رهاناً على نصر خاطف دعامته إنزال بحري كبير بمحاذاة (ساحل الدريهمي) يمد رأس الزحف بالعتاد والأفراد بما يمكنه من دخول الحديدة على نحو باغت ملتحماً بشبكة خلايا طابوره الخامس في المدينة، ومشيعاً بهتافات الترحيب به كفاتح ومنقذ.
حزمة رهاناته تلك تلاشت دفعة واحدة بتوقيت (ساعة الصفر) التي ضربها التحالف موعداً لـ(النصر الذهبي).. محاربو الجيش واللجان، مسنودين بزخم بشري شعبي من أبناء تهامة وكل شرفاء اليمن، حولوا المساحة الساحلية التي انتشر عليها زحف العدو، إلى سلسلة من الزنازين الانفرادية لكتائبه وألويته الزاحفة، وسدد رجال القوة البحرية اليمنية ضربة قاتلة من حيث هدفها وتوقيتها، قوضت رأس بحرية العدو، وسبقتها وزامنتها عمليات استخباراتية في المسرح المائي أثمرت سلة من الصيود الثمينة والحساسة، من بينها أسر ضباط مخابرات فرنسيين.. أما أمنياً فقد استدرج الشهيد الرئيس صالح علي الصماد شبكة خلايا التحالف في الداخل، وأمكن ـ بفضل دمه الزكي والطاهر ـ تظهير أبعاد الشبكة وأذرعها التنفيذية وطبيعة أدوارها باكراً ـ على الأرجح ـ ليجري الإجهاز على رؤوسها ومفاصلها بإسناد زمني أصاب رهانات العدو في مقتل باغت وغير متوقع، ففي حين كانت (الحديدة) قد أصبحت وفقاً لحسابات التحالف رهن قبضته المتقدمة، وكل ما يعوزه هو ـ فحسب ـ وضع أقدامه على مشارف المدينة ليدخل أبناؤها في دينه أفواجاً، وجد نفسه بلا قبضة ولا ذراع، وأفدح من ذلك بجسد ممزق ابتلعت رمال النار في الساحل الغربي أكثر من ثلث قوته البشرية وعتاده الحربي الحديث، ووقع ما تبقى منها فرائس بلا حيلة في مهب جحيم الوسائط النارية الخفيفة والمتوسطة ومضادات الدروع التي تحولت على أيدي أبطالنا رجال الرجال إلى (تنانين أسطورية) ضخمة الأشداق، وقودها الحديد الصلب والفولاذ وأكباد المرتزقة الزاحفين بالآلاف إلى حتفهم.
شبكة خلايا التحالف تنوعت بين إعلامية، تجسسية، جهوية وسياسية، ولم يقتصر نشاطها على الحديدة ـ فقط ـ فالعاصمة صنعاء كانت بؤرة مركزية لرهان العدوان الذي أشارت وسائل إعلامه، بالتزامن مع بلوغ زحفه مشارف المدينة الساحلية، إلى أن سقوطها لن يتأخر فوق يومين عقب سقوط الحديدة.
كان تحالف العدوان ـ بطبيعة الحال ـ واثقاً كل الوثوق من أنه سينتصر بمناولة جهوية وحزبية من شخصيات اجتماعية تهامية وقيادية مؤتمرية في (الحديدة والعاصمة صنعاء)، على النحو الآتي: المعارك على مشارف مدينة الحديدة ستدفع مجتمعها إلى منزلق منفلت من (الإرباك والذعر) وفق تعبير سيد الثورة في خطاب المستجدات الشهير، وهكذا ستطفو أذرع التحالف التخريبية إلى السطح لتعيث فساداً بما يوحي للرأي العام بأن الأوضاع أسقطت من أيدي الجيش واللجان والقيادة الثورية والوطنية في صنعاء، وستتضاعف الأزمة الإنسانية بانقطاع شريان الحياة المائي الوحيد متمثلاً في الميناء، وحينها سيكون الوقت ملائماً والرأي العام المذعور ناضجاً لمبايعة المنقذ الخفي الذي سيطل على هيئة شخصيات (عقلانية تهامية) تدعو (الحوثيين لتسليم المدينة الساحلية لأبنائها والانسحاب نزولاً عند مصلحة الناس وحقناً لدمائهم، فلا جدوى من استمرار المقاومة..!)، وسيلي ذلك مباشرة مبادرة برلمانية تزكي هذا الطلب، وتدعو الأمم المتحدة إلى (تولي إدارة الحديدة ومينائها كطرف ثالث بديل عن الحوثيين والتحالف!).
مصادر مطلعة مقربة في السلطة المحلية لمحافظة الحديدة كشفت لـ(لا) أن المحافظ المنحل حسن الهيج (طلب إلى القيادة الوطنية تسليم المدينة والانسحاب العسكري والأمني منها..).. إلا أن الحديدة – لسوء حظ الهيج- قالت كلمتها، وخرجت في سلسلة من الفعاليات الاجتماعية والجماهيرية النوعية والحاشدة، لتسند العمود الفقري لمحاربي الجيش واللجان، وتدفع بفلذات أكبادها إلى نسق المواجهة الأول مع تحالف العدوان، معاهدة على الصمود واستمرارية الثورة ورفض قوى الوصاية أدوات وأرباباً أياً كان الثمن.
ترسانة العدوان الكوني على اليمن لا تزال تتجاهل كل هذه الحقائق الموضوعية التي تقول باستحالة احتلال اليمن وفداحة أثمان محاولات من هذا القبيل، لكنها مستمرة في المحاولة، بينما أيقن المجتمع الدولي بعجز التحالف أمام تحدي السيطرة على (الحديدة بعملية خاطفة دون أعراض جانبية فادحة على الممر الملاحي الأهم عالمياً)!
التحالف لا يزال يروج لإمكانية عملية كهذه في كواليس المجتمع الدولي، بعد أن أخفق بقسوة في أكبر هجوم عسكري له على المحافظة الساحلية، وتشظت بنية المرتزقة المنضوين فيه إلى مجاميع متناحرة مناطقياً، على خلفية هذا الإخفاق وتنازع الأدوار والأكلاف، وإذ سعى التحالف لوضع الحديدة في قبضته يبدو أنه على وشك أن يخسر (عدن) والجنوب المحتل الذي يعصف ويزوبع بالاستياء والسخط لمصير عشرات الآلاف من أبنائه يسوقهم التحالف إلى محارق مفتوحة لا مصلحة لهم فيها، فيما احترقت كلياً ورقة (طارق عفاش وحراسه).
(هادي) الذي عاد إلى عدن ليسدل غطاء الشرعية السعودية على الهجوم ذي الإدارة الإماراتية على الحديدة، يلوح كأقرب فريسة لسخط الجنوب حالياً، لا سيما مع خيبة رجاء الجنوبيين في معايش آمنة لم تف بها (حكومة الرياض)، فيما نكصت (أبوظبي) عن وعودها لهم بـ(دولة جنوبية مستقلة)، وأيدت لقاء المبعوث الأممي مع (هادي) كرئيس شرعي دوناً عن (الانتقالي) الذي رفض (غريفتث) منحه صفة طرف اعتباري وازن في الصراع أو في مقاربات حله، بحسب مصادر جنوبية.
على الضفة الوطنية المضادة لمقلب تحالف العمالة والارتزاق، تثبت القيادة الثورية جدارتها في الأخذ المقتدر بزمام الصراع إلى مستقبل منتصر كريم حر ومستقل للجميع، وتبرز يوماً فيوماً كرهان خلاص حتى لأولئك الذين ناصبوها العداء ذات يوم، عدا عن مختلف الطيف الاجتماعي والسياسي اليمني شمالاً وجنوباً ووسطاً.
إن قائداً بمقام (أبي جبريل) يستطيع أن يؤلف أقسى الأفئدة وأرقها في اليمن خلف زناد واحد لبندقية تشير فوهتها إلى عدو واحد اسمه أمريكا وتوابعها، وأن يجعل ـ بخطاب متلفز قصير ـ من كل اليمن (حُديدةً) ومن (الحديدة) كل اليمن، لهو قائد حفيٌّ بأن يثير رعب نظام الاستكبار العالمي وقلقه على مستقبل كانتوناته الوظيفية في الشرق الأوسط، وعلى رأسها الكيان الصهيوني..