الجديد برس : منوعات
“كنت بميل لسماع الأغاني القديمة، أم كلثوم وعبد الوهاب وفيروز بقى، وكنت بشجع الأهلي”. قال شاب مصري مجهول انضم للجماعات المتطرفة في سوريا خلال الفيلم الوثائقي المثير للجدل الذي عرضته قناة الجزيرة بعنوان “في سبع سنين بين الإلحاد والتشدد الديني.. التحولات التي عصفت بشباب مصر منذ ثورة يناير”، إذ يعرض الفيلم قصص عدد من الأشخاص الذين قادهم التوغل داخل طُرقات الحكم الإسلامي إلى الإلحاد أو التطرف، باعتبار فقه الدولة الإسلامية أصبح فيما مضى طرحًا ظهر بقوة بعد ثورة 25 يناير، مرورًا بفترة حكم الإخوان المسلمين وصولًا إلى لحظتنا الحالية.
ما شأن أم كلثوم بداعش؟
ولكن ما شأن أم كلثوم بداعش؟ ولماذا اخترت هذا الشاب تحديدًا لأتحدث عنه؟ ربما لأنه من النادر أن تستمع إلى متطرف منضم إلى داعش يتحدث عن أم كلثوم والنادي الأهلي، وكذلك لأن جميع من سار في درب الثورة يومًا ما لا بد أنه قد قابل أحد الأصدقاء والرفاق يشبه في قصته قصة مجهولنا المُلثم، بيد أن من نعرفهم غالبًا قد تراجعوا عن ذلك الطريق الذي يبدأ من صحراء الواحات أو سيناء وينتهي في سوريا.
الُملثم الذي قال إن النقطة الفارقة في سيناريو انضمامه للجماعات الجهادية ممثلة في تنظيم داعش كانت ما أسماه انقلاب 30 يونيو، وذكر بأنه شعر بالحزن مصاحبًا لحالة من الانهيار والبكاء فور إعلان الرئيس عبد الفتاح السيسي -وزير الدفاع حينها- عزل الرئيس الأسبق محمد مرسي، واقتبس منه حرفيًا قوله: “حسيت إن الإسلام سقط”، وهذا تحديدًا ما يمكن أن نقول بأنه قد تكرر على مسامعنا مرارًا ولم يعد يفاجئنا، ولكن حينما سأل مخرج الفيلم غريبنا الداعشي عن أحواله قبل تلك اللحظات، ماذا كان يسمع من أغانِ وأي نادٍ كان يهتف باسمه، تحوّلت النبرة من الشخص المُخيف إلى الطفل الذي كأنه رأى أمه بعد سنوات من الفراق، فبدأ فورًا في سرد لحظات لطيفة جمعته بها، مشهد أشبه بلقطات الأفلام الأجنبية حينما تبدأ في عرض (فلاش باك) عن حياة مُجرم ما، ونرى أن هذا الوحش المخيف والمكروه كان يومًا ما “إنسانًا عاديًا”.
في وقت راوغ وتهرب أقرانه من ذلك السؤال قال هو: “أجمل أغنية بحبها هي أمل حياتي بتاعت أم كلثوم”، ويُمكنك ملاحظته بسهولة وهو يقوم بهز رأسه طربًا بمجرد ذكر اسم الأغنية وكأنه يترحم على تلك الصباحات التي بدأت على أنغام كوكب الشرق، ثم بدأ في ترديد كلماتها حسب ما يتذكر بصعوبة بما أنه محروم منها بحكم طبيعة حياته الجهادية حاليًا: “وإنت معايا يصعب عليا/ رمشة عينيا ولا حتى ثانية/ يصعب عليا ليغيب جمالك ويغيب جلالك، تقريبًا حاجة زي كدة يعني”، وعلى الرغم من أنه قد استبدل دلالك بجلالك ربما لطبيعة الحياة القاسية الجديدة، لمست اختلافًا واضحًا بينه وبين زميليه اللذين قال أحدهما إن تلك الأيام هي الجاهلية بالنسبة له ورفض ترديد كلمات أغنية “أنا وشادي” لفيروز، بل قال إنه نسي اسم الأغنية، في حين اكتفى زميلهم الثالث بالقول إنه يستنكر تلك الأيام تمامًا.
وبالعودة لمجهولنا المُلثم عاشق أم كلثوم، وفي لقطات أخرى تحدث فيها عن الرياضة وتحديدًا كرة القدم المعشوقة الكبرى للمصريين، فبسؤال مجهولنا عن انتماءاته الكروية قال: “كنت بشجع الأهلي، لكن دلوقتي بقيت بشجع فرق أوروبا خلاص بقينا عالميين بقى، إنت عارف الجهاد العالمي ملناش في المحليات”.
حتى الآن ربما قد يظن البعض أن الإجابات عادية وأنني قد أكون استشعرت حنينًا مزيفًا قادمًا من بين كلمات “عاشق أم كلثوم” لرغبة مني في ذلك، فبدأت في وصم رحلته بالندم أو أن أتقوّل عليه بما لا يحمله، ولكن إذا فاتتك حركات جسده التي لا تحتاج إلى خبير حركات جسد ليشرح لك مدى تقلب وتشتت هذا الشاب بفِعل الحنين وهو يحكي ذكريات حياته العادية، فلن يفوتك اعترافه بالندم على تلك الرحلة في ما أعتقد أنه مفاجأة الفيلم الأكبر بلا شك، داعشي يُعلن ندمه على الطريق الذي سار فيه وعلى الرغم من محاولته الظهور متماسكًا قويًا كعادة الجهاديين، إلا أن مجرد سيرة أم كلثوم وفيروز وعبد الوهاب والأهلي كان كافيًا لزعزعة جلسته المستقرة.
وهنا كان السؤال الأهم الذي طُرح عليه، فإذا كان ما هاجر إليه يختلف على أرض الواقع فلماذا هو مستمر هناك؟ وبعد نحو ثلاثين ثانية قضاها في تشتت واضح للغاية وتغيير في وضعية جلوسه تنم على أن السؤال قد أصاب كبد الهدف فاهتز له، أجاب بكل صراحة: “زي ما كنت بنزل مظاهرات الإخوان المسلمين وأنا مش مقتنع بأي حاجة بيقولوها”، ويكمل: “في مصر كان في بدائل، يعني الشاب مننا كان ممكن لو معجبهوش سكة الإخوان وسكة التيار الإسلامي عامة، خلاص يرجع الكلية بتاعته بيته ويكمل حياته العادية”. مجهولنا أنهى حديثه بجملة مباشرة مفادها: “مسألة عودتك للحياة العادية الطبيعية صعبة، وبالتالي محتاجة ترتيب، ونحن في مرحلة الترتيب”.
لا أعلم إلى أي مدى تورط “عاشق أم كلثوم” في العمليات الجهادية، ولكني أعلم تمامًا أنني واحد من هؤلاء الذين يتحدث عنهم فيلم الجزيرة وهم بالملايين في مصر، كنا على شفا أن نسلك نفس الطريق إلى التطرف الديني الأعمى، والذي كان سيقودنا بلا شك إلى حمل السلاح يومًا ما. الأبواب كانت عديدة ومُغرية ومُقنعة لعقول ظلت مغلقة حتى 25 يناير ثم تفتحت على آلاف الجبهات السياسية والأنظمة والفلسفة والفيزياء والإلحاد والانتخابات والتظاهرات وسط وقت ضئيل تُرك لنا كي نتخذ قراراتنا. الأبواب المفضية إلى التطرف تعددت بين جماعات تشجيع كرة قدم وأحزاب سياسية عملت كغطاء لتنظيمات جهادية. لك أن تتخيل أن الآلاف من الشبان خرجوا من مدرجات ملاعب فريقهم المُفضل مباشرة إلى أبواب داعش، ولم يردعنا عن دروب حمل السلاح إلا صديق له باع في ترتيب أفكاره وكبح جماح غضبه وتقدير حالتنا المشتتة هذه، وربما لم يجد مجهولنا مثل هذا الصديق، لذا لا أجد حرجًا في أن أتمنى ألا يكون “الأهلاوي عاشق أم كلثوم” لم يلوث يديه بعد بالدم، عسى أن تكون هناك رجعة يومًا ما إلى ما ينشده من حياة طبيعية، يستمتع مُجددًا بأغنية من أغانيه المفضلة في مقهى يعرض مباراة أوروبية كما أصبح يُحب، حينها سيعرف أنه لم يُخطىء فقط في الطريق الذي أمضى فيه نحو ثلاث سنوات، لكنه أخطأ في سرد كلمات أغنية أمل حياتي أيضًا.
بلال همام