المقالات

ما وراء تسريبات صفقة القرن

ما وراء تسريبات صفقة القرن

الجديد برس : رأي

عبدالله السناوي

كأنه سباق على تقصي ما خلف الأبواب الموصدة من ترتيبات ومشروعات وخطط دخلت وكالات أنباء وصحف ومجلات دولية على قدر من الصدقية المهنية على خط تسريبات “صفقة القرن”.

لم يعد الأمر حكراً على الصحافة الإسرائيلية، التي دأبت على نشر كل ما يصل إلى علمها كـ”بالونات اختبار” لردات الفعل قبل أي إعلان عن الصفقة وصيغتها الأخيرة.
التسريبات باختلاف مصادرها أقرب إلى أفكار عامة لا الى خرائط نهائية، تتفق في الخطوط العريضة وتتباين في الترتيبات المقترحة. لأكثر من مرة أرجئ الإعلان الرسمي عن نصوص “صفقة القرن”. الإرجاء المتكرر – بذاته – مؤشر على الصعوبة البالغة لتمريرها.
حسب ما هو معلن، فإن الصفقة سوف يعلن عنها عقب تشكيل بنيامين نتنياهو حكومته الجديدة الأكثر تشدداً ويمينية بعدما كسب انتخابات الكنيست.
قد يقال إن نتنياهو أكثر اعتدالاً من حلفائه في التشكيل الحكومي، وإنه يتعرض لضغوط لا قبل له بها لتسويغ التنازلات باسم “الواقعية”. هذا الكلام لا يستبعد البوح به قريباً، وهو لا يستحق مجرد الالتفات إليه.
هناك تعقيدات هائلة لا سبيل للقفز فوقها، مثل قضية القدس برمزيتها الدينية والسياسية ومستوطنات الضفة الغربية التي يراد ضمها للدولة العبرية ومشروعات تبادل الأراضي حتى تكون إسرائيل “دولة يهودية” لا مكان لأصحاب الديانات الأخرى فيها ولا حقوق للفلسطينيين فوق أراضيهم.
غياب أي شريك فلسطيني يقبل أن يضع توقيعه على وثيقة الاستسلام النهائي لمصلحة أكثر التصورات الصهيونية تشدداً دون أن يحصل على شيء، أي شيء، يحول دون تمرير ما أطلق عليه الرئيس الأميركي دونالد ترامب “سلام القوة”.
هناك حدود للقوة مهما بلغ عنفوانها في استضعاف العرب. باسم سلام القوة جاء اعتراف ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل سفارة بلاده إليها مخالفاً للقانون الدولي وأي مرجعيات دولية. بذات النهج اعترف ترامب بسيادة إسرائيل على الجولان السوري المحتل.
كأي لص لا يخشى العقاب، أمضى نتنياهو عطلة عيد الفصح العبري في الجولان وبحيرة “طبرية”.
بشيء من الانتشاء قال: “ما أجملك يا أرض إسرائيل”!
حسب موقع إسرائيلي، فإن ترامب ليس ممن يعتقدون أن هناك عشاءً مجانياً وأنه ينتظر الثمن، هذا صحيح لكنه لا يعني الضغط على نتنياهو بقدر ما هو الرهان على ولاية ثانية بأصوات الموالين لإسرائيل في الولايات المتحدة والحصول على جائزة “نوبل” للسلام شأن رؤساء أميركيين سابقين!
الأغلبية الساحقة في المجتمع الدولي ترفض التغول الأميركي على المرجعيات الدولية ولا تراه مدخلاً يساعد على أي نوع من السلام، الأوروبيون والروس والصينيون يتبنون ممانعة ما، لكن لا أحد في الحصاد الأخير يدافع عن قضايا الآخرين بالنيابة.
استباحة القضية الفلسطينية ترجع إلى التدهور الفادح في النظام الإقليمي العربي واستعداد أغلب مكوناته للمضي قدماً في التطبيع السياسي والاقتصادي والاستراتيجي والعسكري مع إسرائيل دون أن يرتبط ذلك بانسحابها من الأراضي العربية المحتلة منذ عام (1967)، كما تقضي المبادرة العربية التي ماتت إكلينيكاً.

الفكرة الجوهرية في صفقة القرن نزع الطابع الوطني التحرري عن القضية الفلسطينية وإحالتها إلى محض قضية إنسانية

بدرجة أخرى ترجع الاستباحة إلى الانقسام الفلسطيني الداخلي، الذي يزكي فكرة توظيفها لتمرير ما لا يمرر من مشروعات وخرائط.
صفقة القرن تعبير عن نوع من الاستثمار الاستراتيجي في الأحوال العربية المتردية والفلسطينية المنقسمة.
هذه حقيقة لا يمكن إنكارها. بغياب التوازن والقدرة على الردع، بات كل شيء مستباحاً. وبالهرولة شبه الجماعية للتطبيع، باتت الأثمان مجانية.
الفكرة الجوهرية في صفقة القرن نزع الطابع الوطني التحرري عن القضية الفلسطينية وإحالتها إلى محض قضية إنسانية تتكفل بعض المساعدات والمشروعات في إنهائها وخاصة في قطاع غزة المحاصر بقسوة.
كلما ارتفعت نبرة الحديث عن مشروعات وتدفقات مالية تحسن مستويات حياة الفلسطينيين زادت بنفس الوقت مستويات إحكام الحصار عليهم إلى حدود التجويع المنهجي لإضعاف أي قدرة على الرفض.
وفق وثيقة مسربة نشرتها مجلة “فورين أفيرز” الأميركية لجاريد كوشنر صهر الرئيس الأميركي ومستشاره للشرق الأوسط، فهو يطلب إلغاء وكالة الأمم المتحدة لغوث اللاجئين الفلسطينيين “الأونروا” لا مجرد تجميد المشاركة الأميركية في تمويلها. في الوقت نفسه يحاول كوشنر أن يسوّق لصفقة القرن باعتبارها مشروعات إنسانية تخفف المعاناة عن الفلسطينيين.
الفكرة الجوهرية الثانية فصم العلاقات بين غزة والضفة الغربية، فلا دولة فلسطينية وفق حل الدولتين، حسب تصريح أخير لجيسون غرنيبلات المبعوث الأميركي في الشرق الأوسط والرجل الثاني بعد كوشنر في إعداد الصيغة الأخيرة لصفقة القرن.
هناك احتمال آخر، حسب بعض التسريبات، لإعلان قيام دولة فلسطينية منزوعة السلاح والسيادة ومحدودة الصلاحيات على نحو (40 – 60%) من أراضي الضفة الغربية.
النسب تتفاوت من تسريب إلى آخر، لكن ما لا تختلف عليه ضم الكتل الاستيطانية الرئيسية إلى إسرائيل حسبما تعهد نتنياهو أن يفعل فور تشكيل الحكومة.
الفكرة الجوهرية الثالثة، شطب حقوق اللاجئين وإحداث جراحات فوق الخرائط بمشروعات تبادل الأراضي. غابت عن التسريبات الحديثة أي إشارات يعتدّ بها عن وطن بديل في شمال سيناء باسم غزة الكبرى، على ما صرح في وقت سابق ترامب. هذا مستحيل تماماً بالنظر إلى حجم الدماء التي بذلت في مواجهات السلاح مع إسرائيل دفاعاً عن مصرية سيناء.
التفكير نفسه هذيان استراتيجي لا يدرك أن سيناء جوهر الأمن القومي المصري، فإذا ما نزعت عن الداخل انهار كل شيء وتهدد البلد في وجوده، ولا يبقى حجر فوق آخر.
التسريبات أعادت طرح البديل الأردني بتوطين نحو مليون لاجئ فلسطيني مقابل ضخ 45 مليار دولار في شرايين اقتصاده تدفع من فوائض النفط العربي وضم الناقورة والغمر الأردنيتين للدولة العبرية مقابل أراض سعودية.
كأن الثمن المطلوب أموال بلا عدّ وأراض يجري التخلي عنها لتمرير مشروع السلام الأميركي المقترح.
رغم الرفض الأردني المعلن، فإن آلة التسريبات لا تتوقف لاختبار مدى القدرة على الصمود قبل طرح الصفقة.
الفكرة الجوهرية الرابعة في صفقة القرن وحولها نفي صفة العدو عن إسرائيل ودمغ إيران بها، كأنه حذف لإرث الصراع من الذاكرة دون استعادة أي حقوق للتصدي للعدو الافتراضي المشترك. الاستهانة المفرطة ولدت قوة رفض أخذت تتصاعد بالوقت وأحرجت بعض مكونات النظام الإقليمي خشية تقويض شرعيته باتهامات التفريط.
موجة التسريبات مرشحة لإزاحة ستائر الكتمان عن كامل أسرار صفقة القرن وصدام الإرادات حولها سوف يرسم مصير الإقليم إلى سنوات طويلة مقبلة. لسنا ضعفاء إلى هذا الحد، وليسوا أقوياء إلى هذا الحد.
هذا ما يجب أن ندركه ونعمل بمقتضاه.

*كاتب مصري

نقلا عن الأخبار اللبنانية