الجديد برس : عربي
غازي المفلحي
يروى أن صاحب مزرعة قال لديكه: أنت تزعجني عندما تؤذّن الصباح،
عليك أن تتوقف وإلا ذبحتك. فسكت الديك ثم قال له صاحب المزرعة بعد فترة: لماذا لا تكاكي مثل الدجاج؟ فكاكا الديك،
ثم قال له بعد ذلك: لا بد أن تبيض مثل الدجاج وإلا ذبحتك. فقال الديك: يا ليتني متُّ وأنا أؤذن!
هذه قصة من نسج الخيال يتداولها الناس للعبرة، وهي تنطبق اليوم على علماء الوهابية السعودية اليوم الذين يقفون
موقف الديك مع محمد سلمان صاحب المزرعة وصاحب المناشير والمعتقلات أيضاً.
تولى محمد بن سلمان مقاليد الحكم الفعلية في السعودية فإذا بعلماء البلاط المتشددين طوعاً وكرها، كالقرني والعريفي والسويدان وغيرهم، يتحولون مع اتجاهه ويميلون معه حيث مال وحط رحال قراراته السياسية والدينية، وجاروا رغباته وتجديداته وانفتاحه، مناقضين عقوداً من تاريخهم وكتبهم ومحاضراتهم ومواقفهم المعاكسة لما يدعو إليه محمد بن سلمان والآن يؤيدونه فيه، على أمل النجاة بحياتهم وأموالهم وربما بجلودهم من محمد بن سلمان، الذي كان زملاؤهم في الدين التكفيري الوهابي ضحاياه، مثل سلمان العودة وعلي العمري ومحمد موسى الشريف وسعود الشريم.
الانبطاح لرغبات محمد بن سلمان
في البداية قام محمد بن سلمان بإلغاء هيئة أجداده من ملوك السعودية “هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”، ثم تبعه علماء الجهاد والسواطير والذبح والتشدد الذين أدخلوا 90% من المسلمين النار وصنفوهم بين فاسق وفويسق، وأتبعوه بخلع ثوب التشدد والانبطاح لرغبة محمد بن سلمان في توجهه الجديد، فاحتفلوا بعيد الحب ووزعوا الورود الحمراء في الشوارع، وقام عادل الكلباني، الداعية السعودي، على غير عادة العلماء الذين جاؤوا بالذبح أمثاله، بتحليل ما حرم بنو سعود على قومهم، من صنوف مظاهر الحياة كالترفيه وغيره، وحلل اللعبة المعروفة عالمياً بلعبة الورق أو الشدة أو الكوتشينة، وسعودياً بـ”البلوت”، التي ظلت محرمة عقوداً طويلة في المملكة ومثلها، لعبة الشطرنج وبعض الألعاب القتالية كالملاكمة، وذلك في مجاراة لسياسة الانفتاح الداخلي، التي ينتهجها محمد بن سلمان.
وحضر الكلباني افتتاح أول بطولة رسمية للعبة ورق البلوت في السعودية، وتحدث عن هذه اللعبة مبيحاً إياها، وحاثاً ممارسيها على “التنافس الشريف”، ونشر صورة له على حسابه الرسمي بـ”تويتر”، في أثناء زيارته للبطولة، مشيراً إلى ما تجنيه البلوت من أرباح مالية، مبيناً: “الآن في هذا الزمن، زمن الدراهم”، حد تعبيره.
أما محمد العريفي وغيره فتعليقاتهم وتغريداتهم عبر “تويتر” تظهر التودد والتقرب إلى ولي العهد وسياسة “الانفتاح” داخلياً وخارجياً، وعدم نقدها بأي شكل من الأشكال، وتأييدهم في كثير من الأحيان ما كانوا ينكرونه قبل ظهور محمد بن سلمان، تاركين خلفهم تاريخاً طويلاً من التناقض في المواقف السياسية والاجتماعية والشرعية.
اعتذار عن ضلال الصحوة السعودية
أما الحدث الأكبر فكان نفي عائض القرني أكثر من 30 عاماً من المنهج الديني الذي فخخ وسمم به علماء السعودية أجيالاً عربية مسلمة وألبسوها الأحزمة الناسفة ووضعوا في أيديها سكاكين الذبح وأفنوها بفتاوى الجهاد، حيث قال إنه يعتذر للشعب السعودي عن التشدد والتضييق والأخطاء التي حدثت باسم الصحوة الإسلامية، التيار الفكري الذي ظهر نهاية الثمانينيات في السعودية برعاية الملك فهد بن عبد العزيز ثم الملوك من بعده حتى عهد الملك سلمان وابنه.
ولم يقل القرني في اعتذاره إنه مع الاسلام المعتدل الذي نادى به محمد بن عبد الله، بل مع الإسلام المعتدل الذي نادى به محمد بن سلمان! محمد بن سلمان الذي يقتل أطفال ونساء اليمن بالنار والجوع منذ أربعة أعوام، ومفتعل الفتن في الدول العربية، الذي يقطع من خالفه بالمنشار أو في أفضل الأحوال يرمى به في المعتقلات حيث لا يظهر بعدها إلى الأبد. واعتذر القرني للشعب السعودي ولم يعتذر للأمة الإسلامية التي أضلتها صحوة السعودي الفكرية.
اعتذار بمثابة الإدانة من عائض القرني، أحد نجوم المرحلة السوداء في تاريخ الأمة الإسلامية، لنفسه وكل علماء تلك الغيبوبة والانتكاسة الفكرية وكل ما قيل وكتب وسجل وحُظِر فيها، حقبة كراهية الآخر وتكفيره واعتبار التفكير جريمة والحياة خطيئة، حقبة أقامتها الأذرع الإخوانية والوهابية، التي تهاجم القرني اليوم على اعتذاره، فقد اشتعل الإعلام بالردود الإخوانية التي فتحت عليه النار.
ويتساءل البعض: هل سيعيد الاعتذار سنين من حياة أجيال الأمة الإسلامية في عصور التشدد والتخلف والإرهاب والاقتتال الطائفي؟! وكيف سيصلح آثاره السيئة التي تحتاج عقوداً أطول لتمحى وتتغير؟! وهل الاعتذار سيشمل مثلاً إلغاء كتب عائض القرني التي تدر عليه الملايين وإن كان المتزن منها مسروقاً، وكذلك الأشرطة والبرامج والمحاضرات والدروس التي أنتجها هو وزملاؤه من كهنة الصحوة؟ والقرني أحد العلماء الأثرياء، وقال بنفسه إن قيمة منزله تزيد عن 4 ملايين ريال سعودي، وهو ثمرة أعماله ومؤلفاته ومحاضراته، ونفى أن يكون قد أخذ حقوق أحد أو اشترته السلطة. كما أنه أحد الناجين حتى الآن على الأقل من حملة اعتقالات واسعة وملاحقات سابقة شنتها السلطات السعودية منذ سبتمبر 2017، تستهدف علماء ومفكرين ودعاة بارزين وأكاديميين وغيرهم ممن هم في الأساس موالون بشكل تام لبني سعود، وشُنّت الحملة بأوامر من ولي العهد محمد بن سلمان، وكان من أبرز ضحاياها سلمان العودة، عالم السلطة الذي اعتقل وهو يمدح أولياء أمره ونعمته، حيث غرد بعد اتصال بين محمد بن سلمان وأمير قطر تميم بـ”تويتر”، قائلاً: “ربنا لك الحمد، لا نحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك.. اللهم ألِّف بين قلوبهم لما فيه خير شعوبهم”، لتقوده تلك التغريدة إلى المعتقل حتى الآن.
تاريخ مشهود من الكذب والنفاق
لعائض القرني تاريخ من التناقضات والتقلبات والتلون نورد بعضها هنا، وهي موثقة، بمقاطع فيديو على الانترنت وبرامج التواصل ويمكن للجميع التأكد منها.
فالقرني دعا إلى الجهاد ضد الأمريكيين في العراق ودعا السوريين لحمل السلاح وقتال بشار وقال إن قتاله أوجب من قتال “إسرائيل”.
ثم قال في وقت آخر إنه الوحيد مع قلة لم يذكروا الجهاد في العراق وسوريا، وقال إنه يتحدى أن يأتوا بتسجيل أو فيديو يثبت ذلك، وأنه لا يفهم في السياسة ولا يخوض فيها وإنما مهمته هي الوعظ والحديث في كتاب الله.
وقال أيضاً إن أردوغان بطل ورمز ونجم وشجاع، ثم انقلب على ما قاله ليشير إلى أن إيران وأردوغان والإخوان قد اتضحت مؤامرتهم على السعودية.
قال بصريح العبارة في مقابلة تلفزيونية إنه في البداية ونتيجة لوجود الإخوان في المعاهد والكليات والترويج لفكرهم بواسطة المدرسين والدكاترة انتمى للإخوان أيام الكلية لعدة سنوات. كما وفي أيام حكم محمد مرسي لمصر زار مصر وتكلم عن مرسي كرئيس لكل المصريين، وكذلك وصف الإخوان بأنهم جماعة إسلامية ضاربة في تاريخ الأمة الإسلامية، ثم وبعد عزل مرسي قال إنه ما ذكره قط لا هو ولا جماعة الإخوان في أي زيارة زارها إلى مصر وإنما حديثه دوما عن القرآن والتفسير. وأنكر أنه كان إخوانياً سابقاً، ونفى حتى أن يكون قريباً من الإخوان وأن القضاء بينه وبين من قال إنه إخواني.
كتب قصيدة مؤثرة للرئيس الراحل صدام حسين وصفه فيها بالشهيد، وقال إنه يرجو له الشهادة من الله، ثم قال في نوبة كذب أخرى إنه ما قال هذه القصيدة ولا كتبها ولا مدح صدام ولا رثاه، وأقسم أنه ما كتب منها بيتاً واحداً، بل إنه هجا صدام وسبه عندما هزم في الكويت لأن صدام حسين طاغوت ودكتاتور وظالم، حد تعبيره.
التقى بالرئيس اليمني الراحل علي عبد الله صالح وأثنى عليه متملقاً له ولقيادات الدولة ووصفهم بالحكمة، وقال إن علي عبد الله صالح من أفضل الزعماء العرب الذين يتكلمون ببساطة وبتلقائية، وأنه يستمتع بهذه البساطة والتلقائية والعمق. وبعد حادثة النهدين التي تعرض فيها علي عبدالله صالح لاستهداف نجا منه قال عنه في قصيدة هاجم فيها بشار الأسد وصدام ورؤساء عرب: “وصالحٌ أحرقت بالنار جبهته”!
واستبعد مؤخراً مبدأ “الصدع بالحق” من منهجه، وقال إنه اكتشف عندما قرأ لعلماء أن انتقاد الحكام على المنابر تشهير وتجريح غير حكيم، وأنه يرسل الخطابات والرسائل لمن سماهم ولاة الأمر لنصحهم.
ها هم علماء البلاط الذين انخدع بهم
الملايين ينكشفون ويظهر معدنهم، فهم ولدوا وتربوا في أحضان بني سعود وحلفائهم من السلاطين وسيقفون في صف السلطة في أي موقف ونحو أي مسلك، حذر الموت والتنكيل. لكن يرى مراقبون أن القرني والبقية من العلماء الذين لم يعتقلوا بعد ويظهرون السمع والطاعة لكل ما يريد محمد بن سلمان وهم معتقدون بأن المرحلة هي مرحلة
“البقاء لمن اطلع” سيكونون ضحية بن سلمان الذي يدشن مرحلة مختلفة كلياً، وأن المسألة مسألة وقت فقط، ولن يسجل تاريخ عائض القرني والعريفي والكلباني والسديس وسعود الشريم والسويدان وغيرهم نهاية مشرفة لهم ولن يخسروا حياتهم أو حرياتهم وهم يقولون: لا لعدوان بني سعود على اليمن، أو عدوانهم على سوريا والعراق وليبيا وكل أرض طالها إرهاب مالهم وتكفيرييهم، ولا هم يرفضون تقارب السعودية مع “إسرائيل” وعبادتها لأمريكا، ولا اغتصاب وتبديد بني سعود لثروات وتاريخ وحاضر ومستقبل شعبهم وخداعه بالرؤى الوهمية لابن سلمان التي لن تتحقق وتيارات الانفتاح التي لا يبدو أن في مستقبل بلدهم في عهد بن سلمان متسعاً ليتعرفوا عليها كلها، ولا يوجد ما يدعو للتفاؤل بشأن مستقبل السعودية، وسيكون هؤلاء العلماء قريبا كذلك الديك الذي روينا قصته آنفاً، مطالبين بما لا يقدرون عليه، فيسحقهم محمد بن سلمان غير مأسوف عليهم لا من الشعوب العربية والمسلمة المظلومة ولا من جماهيرهم المتشددة والهائجة التي صنعوها واتبعتهم وتبرؤوا منها اليوم، فهم جاؤوا اليمن وسوريا والعراق بالذبح واحتفلوا في شوارع السعودية بعيد الحب الذي طالما هاجموه وحذروا منه.