الجديد برس : رأي
صلاح الدكاك
يحاول “السياسي الأعلى” متأخراً ترجمة نقاط محاربة الفساد التي طرحها سيد الثورة، قبل أكثر من عامين، ضمن 12 نقطة للنهوض بحال البلد داخلياً وفي مواجهة العدوان الخارجي الكوني.
عامان من إشاحة الوجه، دون مبرر، عن هذه النقاط الثورية التي تؤلف محددات مسار يقرن مواجهة العدوان بإعادة تصويب بوصلة العمل الرسمي وتفعيل مؤسسات الدولة وتأهيلها كروافع ناهضة بمشروع التغيير المنشود في شتى مناحي الحياة.. متلازمة لا ترجئ مواجهة التحديات الداخلية لحين الفراغ من مواجهة التحديات الخارجية، فالجبهتان في حساب جدلية الصراع هما جبهة واحدة، وتصبان في مآل واحد سلباً أو إيجاباً، ولصالح البلد وتحريره أو ضده وعلى حساب سيادته.
في خطابه المتلفز المكتوب الذي ألقاه الأربعاء الفائت، أمام حضور رسمي، لم يحدد الرئيس المشاط سبلاً وآليات واضحة للشروع في محاربة الفساد، وبدا أن هذه الخطوة المتأخرة هي ردة فعل لموجة تحذيرات “ناصحين” من اندلاع موجة غضب شعبي في اليمن امتداداً للبنان والعراق. وبمنأى عن محاسبة النوايا، فإن الشروع في هذا المسار، ولو متأخراً، هو خير من الاستمرار في إشاحة الوجه عنه وإرجائه.
على أن كل الخشية أن يكون هذا التوجه محض تكتيك يهدف لتطرية العلاقة بين السلطة وبين الشارع المتضرر من الفساد وامتصاص تبعاته في نفوس الناس بوعود استباقية مجنحة، قبل أن تتمظهر غضباً في وجه الحكومة والقائمين على أمر البلد.
إن عجز التوافقية السياسية الحاكمة في الراهن (السياسي الأعلى والإنقاذ) عن انتهاج مسار جدي لمحاربة الفساد، هو أمر محسوم، فهذه التوليفة الهجينة ولدت كسيحة بالقصور الذاتي وغير مؤهلة للنهوض بمسار تغيير جذري كهذا، ليس فقط لأنها استمرار لتاريخ عريق من الفساد، ومن الهزل الرهان عليها كرافعة في محاربته، بل لأن التوافقية التي تخلقت منها قد صهرت النزوع الثوري لمكون أنصار الله في أتون كساحها وخنوع ذهنيتها الحشوية، بحيث لم يعد بالوسع فرز جديدها من عتيقها إلا بفارق السن.
إلى ذلك، فإن القوقعة الرسمية التي يتموضع فيها الرئيس مهدي المشاط، ليست بيئة مواتية ولا رديفاً مثالياً للاتكاء عليها والانطلاق منها في هذا المسار الحساس والمتشعب وبعيد الغور، إلا بفرضية أن يبدأ بنقض هذه القوقعة وتقويضها لجهة بدلاء نظيفين وصادقين، كبرهان عملي على جدية التوجه المناوئ للفساد والهادف لاجتثاثه وتجفيف منابعه.
لا أقصد بهذه المكاشفة تكسير مجاديف الرئيس، فالتعافي الناجز من آفة الفساد يتطلب جرأةً في تشخيص أبعاد الآفة العتيق منها والمحدث، كما وفتح ملفات الجراح المتخثرة ومعالجتها بالكي لا بضماد المداهنة والقراءة المجتزأة التي تبدي قليلاً وتخفي كثيراً.
هل بوسع الرئيس المشاط أن يتخذ قرار تقليص الـ40 وزارة حالية إلى بضع وزارات على مبدأ الحاجة والفاعلية، لا على مبدأ الترضيات والتسكين السياسي التوافقي؟!
هل بوسعه تنزيل الرتب العسكرية التي توشك أن تدخل خانة المُهيب بلا مسوغات عملية لجهة حاجة المواجهة ومدخلاتها الضرورية بمنأى عن ترف الألقاب الكرنفالية؟!
هل بوسعه حصر الأموال والثروات المتراكمة من كد الفساد العتيق والمحدث، وإزاحة الستار عنها، وتوريدها لخزينة الدولة، ومحاسبة أصحابها من أي فريق أو مكون كانوا؟!
إن التوجه الذي دشنه الرئيس المشاط في خطابه المكتوب تلزمه مصاديق عملية ليكون نهجاً معبراً عن تطلعات شارع الثورة وأنصارها، لا تكتيكاً استباقياً لموجة غضب محتملة، وتزلفاً لمزاج عام محتقن بفعل عقود الفساد والوصاية وسنوات العدوان الكوني الـ5 التي أجهزت على ما تبقى من مقدراته وثرواته بصورة منظورة للعيان.
على الثورة أن تنطلق في علاقتها بالشعب وفي مخاطبتها له من محددات مشروعها ومقارباتها الجذرية للتغيير، وبمنأى عن منصات الغزل السياسي المرحلي ذات المرامي قصيرة المدى، فالتغيير هو ما تستهدفه قيادة الثورة، لا ما تخشاه وتتملق حاجة الجماهير إليه بجرعات تسكين جبانة ومتزلفة.
إن نصف ثورة يساوي لا ثورة… وإرجاء حاجات الشعب لاسترضاء شريك الوفاق والتغطية على هوامير الفساد الجدد، هو تماهٍ كامل مع عقود الوصاية التي أطحنا بسلطتها ولانزال محكومين بذهنيتها عوضاً عن أدواتها.