المقالات

التوجُّه شرقاً شعارٌ ممكن

التوجُّه شرقاً شعارٌ ممكن

الجديد برس : رأي

روبير بشعلاني
إن وصول البعض إلى حالةٍ من اليأس نتيجة اصطدامه بطبيعة العمران البشري، الذي لا يسمح بـ”التغيير”، جعل يأسهم إحباطا كليّا يعمِّمونه على كل شيء؛ فلقد استنتجوا أن هذا العمران بما أنه لا يسمح بـ”التغيير” فهو لا يمكن أن يسمح بأي شيءٍ آخر.
ما يمكن قوله أولا أن هذا الاستنتاج صحيحٌ وخاطئ في آنٍ معا؛ فهو صحيحٌ لو كان لبنان جزيرة معزولة لا جزءا من محيطٍ عربيٍّ وإقليميٍّ يتأثر به وبتحولاته؛ وهو خاطئ لأنه يفترض أن مواقف أطياف العمران البشري ثابتةٌ وواحدةٌ مهما كان الموضوع.
وهم، بسبب سيطرة فكرة “الشعب” و”الوطن النهائي” على منهجية فكرهم، لا يستطيعون فهم آلية التموضع لدى قرابات الكيان.
فهذه القرابات ليست مجنونة ولا غبية كما تظن نخب المدن، بل هي تبحث أسوة بغيرها عن موارد تتيح لها أن تدافع عن أمنها وغذائها، وبالتالي هي عقلانيةٌ جدّا وتعرف ما تريد.
القرابات تتعاطى مع الواقع وتنطلق منه؛ فعندما تجد أن الأمريكي لم يعد الطرف الذي يؤمِّن المُلك والثروة والريع تروح تبحث عن تموضعٍ آخر يتيح لها البقاء على قيد الحياة.
وبما أن التوجُّه شرقا يتيح لها أن تضمن أمنها وكلأها وماءها، وبما أن الأمريكي لم يعد يؤمِّنها، فهي قد تكون مستعدة لكي تمضي بهذا الخيار.
ومن هنا، فإنها ليست ضد كل شيءٍ كما يظن الحداثي؛ هي فقط ضد كل ما يلغيها أو يمنع عنها حصصها من الماء والكلأ. ففكرة أن التوجُّه شرقا هي فكرةٌ مرفوضةٌ عندها تماما كفكرة “الإصلاح”، هي فكرةٌ واهمةٌ لأنها تنطلق من نظرةٍ مشوَّشةٍ للواقع الاجتماعي الفعلي.
وفي هذا السياق، ربما كان من المفيد التذكير بقاعدةٍ علميةٍ تقول بأن الفرضيات الاجتماعية والسياسية التي تصل إلى طريقٍ غير نافذٍ هي بالضرورة فرضيات خاطئة ناتجة عن قراءةٍ خاطئةٍ لطبيعة المعاش السائد وللتناقضات التي تخترقه.
فإذا كان الاجتماع يمنع “تغييرك” المنشود، فإن قراءتك للصراع هي المطلوب تغييرها على أغلب الظن، لأن الصراع الحقيقي يكون في مكانٍ آخر، وعليك أن تجده.
في بلادٍ وقعت تحت الاحتلال ثم الهيمنة، أغلب الظن أن الصراع هو بين هذه الهيمنة وأغلب اجتماع بلادنا، وهو من طبيعة التحرر الوطني؛ والتوجُّه شرقا ما هو إلا خطوة على طريق التحرر من تلك الهيمنة التي تقطع الهواء عن أغلب القرابات.
فالقرابات ذاتها التي تجد “التغيير” انتحارا لها وتحاربه بأسنانها هي هي التي تقبل بالتحرر والدولة الوطنية إذا شعرت أن هذه الدولة تضمن أمنها ومعاشها؛ والتوجُّه شرقا ليس تهديدا وجوديّا لها بالمبدأ، بعكس الحصار الأمريكي الذي يجوِّع الجميع بدون تمييز.
*  كاتب لبناني