الجديد برس : رأي
روبير بشعلاني / كاتب لبناني –
كل صراع في بلاد مستتبعة لا يجعلك بخندق مواجه للناهب الدولي وفِي صف التحرر الوطني هو ثورة ملونة بمعزل عن شعارها وتنظيمها وراديكالية برنامجها.
منذ عقود عدة تتالى أمام أعيننا مشاهد ثورات وانتفاضات حول العالم يحتار المراقبون في توصيفها، فيردها البعض إلى مؤامرات خارجية، ويطلق عليها حينها ثورات ملونة، فيما يردها البعض الآخر إلى أزمات داخلية ويصفها بثورات التغيير والإصلاح. ويعتبرها فريق ثالث ثورات حقيقية، لكن عفوية ومن دون شعارات ثورية كافية، فتتعرض للسرقة على يد قوى الثورة المضادة. فكيف تكون الثورة غير ملونة؟! وهل المعيار هو شعارها أم هي ملونة حكما بسبب موضوعها الاجتماعي في بلاد مستتبعة؟!
هل يمكن أن تنشأ اليوم ثورات اجتماعية غير متسقة مع الصراع الدولي العام الذي يتحول في البلاد التابعة إلى مسألة وطنية؟! في موضوع الثورات في البلاد المستتبعة من البديهي -بالمبدأ- أن يكون هناك انسجام وتكامل واتساق ما بين وجهي المعركة، الاجتماعي والوطني. فمن غير المنطقي أن يتناقض الاجتماعي مع الوطني أو العكس. وإذا حصل فإما أن العطب في المنظار وإما أن القوى الاجتماعية تجهل مصالحها.
من غير المنطقي إذن أن تكون قوى “الاجتماعي” مختلفة عن القوى الوطنية، أو حتى عميلة أو تابعة للخارج. ففي هذه الحالة يدفع المنطق من كيسه ويتلقى ضربة عنيفة على رأسه. وإذا حصل وكانت قوى التغيير الاجتماعي مختلفة أو حتى بتضاد مع قوى “الوطني” فلا يمكن أن يكون السبب جهل كافة القوى الاجتماعية لمصالحها، بل أغلب الظن أن المعركتين غير متكاملتين وغير مترابطتين، بل هما معركتان متناحرتان لا تقوم الواحدة إلا على حساب الأخرى.
فمن المستحيل أن يكون هناك معركتان بالأهمية والأولوية ذاتها وتكون القوى الاجتماعية فيهما مرة عميلة للخارج وتغييرية تقدمية، أو العكس، مرة وطنية وتنتمي إلى السلطة الرجعية الفاسدة المطلوب إسقاطها، ويكون الوطني فاسداً أو دكتاتورياً أو دينياً أو جزءاً من طبقة الفساد، والخائن لوطنه نظيفاً وتغييرياً وديمقراطياً ومدنياً وعلمانياً.
ثمة شيء غير واضح وغير منطقي في مثل هذا المشهد. هذا التحليل غير منطقي بالضبط، لأنه ينطلق بالأساس من فرضية وجود صراعين، اجتماعي ووطني، في آن معا.
أصحاب هذا التناقض البنيوي لم يجدوا حلا لهذه المعضلة إلا عبر وضع رغباتهم مكان الواقع، فأخذوا يدعون القوى المقاومة إلى المشاركة في المعركة الاجتماعية حتى يحلوا ورطتهم النظرية، فيصبح الوطني تغييرياً أيضا، متناسين ما يمكن عمله عندئذ بالخائن الذي سيبقى من جهته تغييرياً!
هل يطلبون منه أن يكفّ عن التغيير حتى تضبط الصورة النظرية؟!
وبما أن الرغبات لا تحل مكان الوقائع رفضت قوى التصدي للهيمنة الانخراط في “الاجتماعي”، ورأت فيه استدراجاً لفتنة داخلية ولتغليب التناقضات الثانوية على التناقضات الرئيسية.
فهي ليس أنها لم تدرك مصالحها الاجتماعية، بل اعتبرتها جزءاً لا يتجزأ من المعركة ضد الهيمنة وتتمة منطقية لها، وبحسها السليم أدركت أن فتح معركة اجتماعية يضرب معركة التحرر ولا يكون إلا على حسابها.
الورطة إذن ليست في “الشعب الخانع”، بل هي ورطة نظرية قبل كل شيء، لكنها تقود إلى منزلقات خطيرة في الممارسة العملية، فهي تجعل من الحليف الاجتماعي هنا عدوا للوطني هناك وبالعكس، وتصبح التحالفات تكتيكية بكل الحالات وواهية.
فمن تتفق معه على شكل الدولة فرضاً أو على تحرك مطلبي أو اجتماعي تعتبره خائنا للوطن بالوقت ذاته، فأين الاتساق؟! ومن تتفق معه في تعيين العدو الخارجي والخطر الوجودي والهيمنة هو عدوك الوجودي في معركة إصلاحك، لأن تحليلك يجعله من الطبقة السياسية الحاكمة. وهكذا دواليك.
من جهة ثانية تقود هذه الورطة النظرية إلى الضياع في الأولويات، فتصير المعركة الثانوية رئيسة وبالعكس. ومن أخطر المنزلقات هي تلك التي تجعل منك أداة بيد العدو الخارجي يستخدمها في غزوه وفِي عزل وإضعاف القوى المجابهة له. وهذا النوع من الانزلاقات شهدنا منه كثيرا في الربيع العربي، حيث تحولت قوى التغيير في غالب الحالات إلى أداة منخرطة في الغزو الخارجي، وفِي أحسن الأحوال إلى قوى حيادية مع ميل ضد الطرف الوطني بحجة أنه “النظام”، وأنه غير ديمقراطي وفاسد أو ديني وغير علماني وما إليه. تهافت هذا التحليل ناتج، على ما اعتقد، عن وهم نظري آخر، أكثر خطورة، يعتبر أن بلاده ناجزة وتواجه عدوا خارجيا طارئاً.
فهذا التحليل لا ينطلق من الهيمنة التي وحدت بلاده التابعة مع المركز برباط رأسمالي شكلي، بل من داخل يواجه غزوا يكاد يكون استثنائياً. لا يعي الهيمنة بصفتها عدوا بنيويا صار داخليا وثابتا وليس طارئاً، بقي في مرحلة ما قبل الهيمنة حيث البلاد حرة سيدة لكنها متخلفة، لوحدها، وتحتاج إلى إصلاح داخلي.
لم يصل هذا التحليل إلى مرحلة وعي طبيعة الصراع بعد نجاح الغرب في ربط “الخارج الرأسمالي” بمركزه بحيث أصبح الكل وحدة تحليل عالمية واحدة لا يجوز تحليلها كما كانت سابقا، بمعنى أن “تخلف” الطرف ناتج عن “تقدم” المركز والعكس بالعكس، وأن علاج “التخلف” هنا مستحيل بدون علاج “التقدم” هناك.
وهذا ما جعل التضارب بين الاجتماعي والوطني مسألة ممكنة في سلوك أصحاب هذا التحليل بما هو نتاج لعطب نظري بالأساس يعكس برأيهم وضعين مختلفين داخلياً وخارجياً، عاماً وخاصاً، لا بل وصلت البلبلة الفكرية حدا جعل من “تطوير” الاجتماعي شرطاً لنجاح الوطني. وكأنك تقول إنه لا بد من بناء نفسي حتى أتغلب على من يمنعني من بناء نفسي، أي المستحيل، فأنت لا تحتاج لمعركة مع من يمنعك من بناء نفسك طالما أنك تستطيع بناءها بوجوده.
وكأن الهيمنة حيادية في المعركة الاجتماعية الموهومة، لا بل يصل البعض إلى “تلاقٍ” معها بالمسألة الاجتماعية والحقوقية. ومن أغرب العيوب في هذا التحليل هو انطلاقه من فرضية تحول اجتماعه ما قبل الرأسمالي إلى اجتماع رأسمالي على النمط الأوروبي، وبالتالي اعتقاده بأن الصراعات الاجتماعية فيه قد أصبحت صراعات أوروبية.
كل ذلك وكأن الهيمنة مجرد قشرة خارجية لم تدخل في صلب التابع ولَم تحوله إلى جزء منها. يظل هذا التحليل، حتى في حالة اكتشافه للتراكم العالمي، قانعا بأن الهيمنة هي العام وبلاده هي الخاص، وأن العلاقة بين المهيمن والمستتبع هي علاقة خارجية، ولذلك تراه يواصل تحليله الأورو- مركزي عن الصراع في بلاده رغم علمه أنها مستتبعة ولَم تتحول إلى رأسمالية فعلية.
يظل يعتبر أن صراعه الأساسي هو التغيير، تغيير نظام ملكية وسائل الإنتاج، كما لو كان في فرنسا القرن الـ18. اكتشف أن التراكم عالمي، لكن بقي يحلل كما لو أنه محلي.
فهم أن التراكم ليس داخلياً حتى في أوروبا ذاتها، لكنه عندما حلل بلاده نسي أن التراكم عالمي وعاد يفترض أن التراكم داخلي ومحلي وبلدي أو كأنه يجري على دفعتين، واحدة داخلية وأخرى خارجية، لم ينتبه إلى نتائج اكتشافه للطابع العالمي للتراكم على مستوى وحدة التحليل ولا على مستوى التناقضات.
لم يدرك أن عالمية التراكم تلغي مصدره الداخلي، إذ تجعله بين الأمم لا بين الطبقات داخل أوروبا، وبذلك فإن عالمية التراكم تلغي التناقض الداخلي في أوروبا ذاتها، لأنه ليس سبب التراكم الرئيس، وتجعله بين المركز الناهب وبين المنهوب، وبالتالي فإن التناقض الرئيسي في هذه الحالة لا يكون عندنا بين شرائح المجتمع ما قبل الرأسمالية، بل بين “الشعوب المضطهدة” وبين المركز الناهب.
وعليه يتم إلغاء حلقة الاجتماعي من الصراع لصالح التحرر الوطني من هيمنة المركز الناهب. عالمية التراكم تعني أن “الشعب المضطهد” بنضاله ضد النهب ومن أجل استقلاله هو القاطرة التاريخية التقدمية التي تحرر البشرية من السجن بماضيها ومن وظيفتها في تأمين حاجات المركز من المنهوبات واليد العاملة الرخيصة. فهي، أي القاطرة، بتحررها تقلص مساحة النهب المسؤولة عن حجم التراكم العالمي، وهذا التقلص في التراكم يخلق أزمة في المركز ويجبر الرأسمال الغربي على الهرب إلى الأمام وملاقاة حتفه، ولهذا ربما أعلن لينين يوما أن الشعوب المضطهدة هي التي ستقضي على الإمبريالية، وبهذا المعنى فإنه لا وجود لصراعين محليين، اجتماعي ووطني، ولا ضرورة لربطهما، فالمعركة تجري على المستوى العالمي، ولذلك نجد أن افتعال معركة اجتماعية في ظل الهيمنة يقود دوما، على المستوى النظري، نحو بلبلة في فهم طبيعة الصراع، وعلى الصعيد السياسي إلى بلبلة وضياع في التحالفات والتموضعات، وبلبلة في فهم أدوار القوى الاجتماعية والسياسية وتحولاتها الدائمة واستداراتها، فضلاً عن البلبلة في الأولويات وفِي رسم التحديات التاريخية والمهمات كما في التموضع السياسي.
خطورة فهم طبيعة الصراع بشكل خاطئ لا تتوقف على نتائج تنظيمية وضعف تمثيلي وتهميش صاحبها فحسب، بل هي تقود إلى ممارسات وتخندقات تجعل من صاحبها على تضاد مع مصالح “الشعب المضطهد”، أي في الموقع المعادي.
كل صراع لا يجعلك بخندق مواجه للناهب الدولي وفِي صف التحرر الوطني هو صراع ملون، بمعزل عن الشعار المطروح ودرجة راديكاليته الاجتماعية. فاقتضى التنويه.
كاتب لبناني، رئيس تحرير صحيفة “ميسلون” الإلكترونية.