المقالات

الكوت الرمادي ..!

الجديد برس : مقالات 

بقلم / ملك المداني

كان لي كوت رمادي بديع المنظر جميل الطلعة بهي الهيئة فاتن اخاذ مشرق وهاج
هادئ براق جامحًٌ تواق لخطوطه نسق ولتقليمته ألق كأنه كوكب مضيء او مذنب فوضوي مداراته تسلب الألباب وتقسيماته تخطف الأهداب أصيل بلا انساب بسيط بلا اسهاب دُرري الوهج لؤلؤي النسج اغنج ازج ابلج مدعج اكحل !
لعمري ان كل قصائد العشاق والمتيمين لم تكتب الا لك ولم تغنى الا لك فالله درك اي سراً تخفيه ياكوتي العزيز !
لله در من اجاد حياكتك من أي خيط خاطك
هل لجت خيوط الشمس في سُمات خياطك
بها جمعت تفاصيلك واقسامك باجزائك ؟
ام حيكت بطبع الخيل بطاناتك واكمامك ؟!
هل هي إبرة الخياط من استخرج ماتخفيه اعماقك ام المعول من استكشف ومن سبر خفايا قعر اغوارك ..!؟
لله من أي قماش انت دافئ شتوي وبارد صيفي عاصف ربيعي ومزهر خريفي لكل الاحوال انت لا تأثر بك تقلبات الطقس والمناخ ، كنت لي خير رفيق وخير صاحب .
كان لائقاً في كل الظروف وفي كل المناسبات كان يجعلني ابدو مع ( الثوب والقايش ) كشيخ قبيلة القى الاحترام اللازم والتقدير في الدواوين والمقايل !
كنت ارتديه مع القميص والبنطلون واتحول فجاءة ًل حداثي منفتح ومثقف واعي اتكلم ب ( of course و never mind ) في المقاهي والكوفيهات ..!
لبسته مرة مع الثوب القصير فكنت اقرب مايكون الى ابن تيمية والالباني ..!
لم يكن يفارقني لحظة واحده وان اضطررت لخلعه فكنت اعلقه امام ناظري كي اتلذذ بمفاتنة وتضاريس اجزائه !
لله دره لم احتج لأخراج جوازي او بطاقة هويتي مرةً واحده وانا ارتديه كان هو معرفي وهويتي وتذكرة عبوري من نقطة لانقطة ومن مقر لامقر ومن منصب لامنصب كنت فقط اعرف بصاحب الكوت الرمادي !
دخلت به حانة ومسجد وفندق ومنزل ومركز ومقراً ، سجنت به مرة واخذت حريتي به
سافرت به من صنعاء لصعدة ومن بروكسل لجنيف ومن بيروت للرياض ثم عدت به لصنعاء وذمار ودون ان يطلب مني مرةً واحدة ان اخرج جوازي او تأشيرة دخولي !
قابلت به سيد زاهد وزعيم داهية وخليفة مسلمين وامير زنديق وسفير لدولة عظمى وبائع خمور وداعية اسلامي وكلهم ابدوا اعجابهم به ولم يتذمروا قط !
لا ادري اي سر يخفيه حتى ينال الرضى من كل الاطراف والجهات ،
لا ادري هل هو ايطالي الصنعه ام هولندي التجميع هل هو امريكي الخياط ام ان حبكته يهودية هل عُجنت طينته بطينة كل بلد ربما لم لا ..!؟
لله درك من كوت انت ! ما ابلغ لسان جيباك وما اوسع جيوبك انفسها لتخفي كل هذه التناقضات دون ان تظهر للعيان !
كان شغلي الشاغل ومصدر الهامي وسر هواجيسي كنت ارتديه منذ ان استيقظ ولا اخلعه حتى اخلد للنوم كنت قد دقيت مسماراً في حائط غرفتي امام سريري لأعلقه هناك ويكون اول ما اراه عندما افتح عيناي !
إلى ان اتى ذاك اليوم !
بعد ان انهيت التبختر بكوتي الرمادي امام اصدقائي وجلسائي مثل كل مرة ، بعد ان عدت للمنزل وانا جد مرهق من السهر والسمر خلعت كوتي وقمت بتعليقة امام عيناي وغططت في سبات عميق استيقظت عصراً ولكني هذه المرة لم اجد الكوت الرمادي امام عيني !!!
كان يحل مكانه كوتاً اسود اللون ! صعقت من الفاجعة وقمت مذعوراً ابحث عن الرمادي ولم اجده ! ارتفع صوت صراخي في البيت حتى التم حولي كل من في المنزل كنت اصيح في وجوههم اين كوتي الرمادي ؟!!
بينما كانوا يردون ببلاهة وبرود اي كوت رمادي ، انت لم تمتلك قط كوتاً رمادي اللون !!
صرخت بدوري ، الكوت الذي كان معلق هانا مكان الكوت الاسود ..!؟
اجابت امي بدهشة هذا هو الكوت نفسه انما كان متسخاً يملؤه التراب والغبار فقمت بغسله حرصاً مني على مظهرك امام الناس !!
صمت قليلاً وارتديته مندهشاً واكتشفت فعلاً انه كوتي الرمادي !!
كوتي الرمادي الذي هو في الاصل اسود اللون انما التراب والغبار جعل منه رمادياً ، اكتشفت ايضاً انه لم يعد بنفس الرونق الذي كان عليه بينما كان يحمل تراب وطنه وغباره على اكتافه ، بل لقد اكتشفت انه عاد قبيح المنظر يبعث على الاشمئزاز والتقرف وادركت عندها ان تراب الوطن قد يخفي الكثير من القباحات والسيئات بل ويحيلها حسناً وجمالا ، لم يعد جميلا ولا بليغاً ولا صاحب حضور حتى لم يعد يمتلك اقل تفصيل من تلك التفاصيل التي كانت تملؤه عندما كان اشعثاً واغبر حسبما يدعي ..!
ولم اعرف وقتها هل اشكر والدتي لأنها كشفت لي حقيقة ما كنت امجده وابجله ام القي عليها اللوم لأنها لم تدعني اعش الكذبة واتلذذ بها !
لم ادري مالذي علي القيام به سوى اني خلعت الكذبة من على اكتافي ورميتها بعيداً وانحنيت لأقبل اقدام والدتي وتراب وطني الذي تدوسه ..!

نشر في صحيفة الديار