الجديد برس
بقلم د/ لبيب القمحاوي
- تمر منطقة الخليج العربي الآن بحقبة غامضة تؤشر الى قرب وقوعها في جحيم من التطورات الدموية التي قد تكون نتائجها وخيمة على تلك المنطقه وشعوبها . فدول الخليج التي حرصت لعقود مضت على النأي بنفسها عن الإنخراط العلني في المشاكل المحيطة بها نراها الان تزج بنفسها علناً في أتون مشاكل المنطقه ومعاركها . وإنتقلت دول الخليج بذلك من تـَرَفْ الصراع السياسي إلى جحيم الصراع العسكري دون أسباب حقيقية موجبة . فتورط دول الخليج في الحرب على الإرهاب والحرب في اليمن والحرب على سوريا ومن قبلها العراق هي من مظاهر هذا التحول الذي تصعب الآن قراءة آثاره على دول الخليج وعلى المنطقه أو إستيعاب نتائجة بشكل حاسم . ولكن تداعيات هذا الإنعـطاف الخطير في مجرى الأحداث لا يمكن النظر إليه بإعتبـاره أمراً بسيطاً أو حَدَثاً طارئاً . إن ما نحن بصدده قد يؤدي إلى إنهيار النظام السياسي القائم في الخليج وقد يؤدي إلى تفتيت بعض دُوَلـِهِ وإعـادة رسم حدودها . وهو بذلك يكون في حقيقته إمتداداً لما يجري في العالم العربي ، وإنصياعاً لرؤية بعض الدول الأجنبية لمستقبل هذا العالم العربي .
طالما إعتبر السعوديون والخليجيون أن مال النفط والغنى المرافق له كافيين لشراء الذمم والأمن والإستقرار والنفوذ والأحترام والبشر والدول ، دون أي إعتبار أو تفكير بأن السحر قد ينقلب يوماً ما على الساحر وأن أدوات الغنى والرفاهية قد تتحول لتصبح هي نفسها مسببات القتل والدمار . وقد إعتقدت منظومة دول الخليج ، مُخطِـأَة ، أن تقديم المساعدات المالية لهذه الدولة العربية أو تلك تكفي لشراء سكوتها أو دعمها حتى وإن رافقها العديد من الإهانات أو المساعي التآمرية والتي قد يكون مصدرها في معظم الأحيان إيحاءآت خارجية غير عربية أو تشنجات تعكس عقلية الأعراب أكثر من العروبة .
البحث عن موقع وعن دور مؤثر كان دائماً الشغل الشاغل لمنظومة دول الخليج النفطية خصوصاً وأن مواردها المالية وهي أعلى بكثير من واقعها وقدراتها وحجمها الجيوبوليتيكي زَيـﱠنـَتْ لها إمكانية تحقيق ذلك .
وفي حين أن تلك الدول لم تتعامل بإهتمام حقيقي مع هويتها العربية وإمكانية إستغلالها كمدخل منطقي لتعزيز دورها الإقليمي فإن العكس كان صحيحاً . فبالرغم من أن بعض هذه الدول قد فتحت أبواب العمالة لمئات الألوف من العرب ، إلا أنها قد تعاملت مع الدول العربية في معظم الأحيان بفوقية واضحة ، وأحياناً بإحتقار يعكس حقيقة شعور تلك الدول تجاه إخوانهم العرب . ولم يقف الأمر عند ذلك ، بل حاولت تلك الدول خلق هوية جديدة خليجية تسموا على الهوية العربية من خلال تأسيس “مجلس التعاون الخليجي” كنادي للدول النفطية الغنية ومن ثم تحويله إلى إطار سياسي وإلى هوية سياسية ومرجعية لدول الخليج حصراً ، بما في ذلك السعودية والكويت . وهكذا عَـكـَفـَتْ منظومة دول الخليج على محاولة إنتهاج سياسة أكل الكعكة والإحتفاظ بها في نفس الوقت . هم يريدون أن يكونوا عرباً عندما يناسبهم ذلك وخليجيين عندما لا يناسبهم أن يكونوا عرباً . وبالرغم من الموقف الخليجي في التركيز على الهوية الخليجية أولاً ، إلا أن العالم إستمر في التعامل معها على أساس أنها دُوَل عربية أيضاً . وإستمر تعامل العالم الخارجي معها بشكل إنتقائي . فهي دول خليجية متى كانت مصالح الغرب تتطلب ذلك خصوصاً عند توقيع صفقات السلاح ، وهي دُوَلٌ عربية متى أراد الغرب أن يتعامل معها بتلك الصفة خصوصاً عند ممارسة الضغط أو الإبتزاز عليها . وهذا ما دفع الوضع بالـنسبة لتلك الدول في نهاية المطاف وعشية حقبة الربيع العربي وما تلاها ، إلى حافة الخطر عندما تطورت الأمور إلى الحد الذي جعل من الأخطار الإقليمية أمراً محتوماً على الجميع دون أي إعتبار لأي هويات خيالية ومصطنعة حيث أعاد ذلك الحال ربط منظومة الدول الخليجية بعالمها العربي حماية لها من المخاطر القادمة ، وتم إعادة تعريف الأخطار الإقليمية على العالم العربي لتشمل دول الخليج .
إبتدأت دول الخليج في التعامل مع هويتها العربية وعمقها العربي بإهتمام واضح عندما شعرت أن وجودها ومصالحها الذاتية قد أصبحت في خطر وأنها أصبحت غير قادرة على التصدي لذلك الخطر بأموالها فقط . وهنا إبتدأ التغيير في موقف تلك الدول بإتجاه التعامل مع الهوية العربية والإنتماء العربي بجدية وأولوية جديدة حتى وإن جاء كل ذلك متأخراً بعد أن حَلﱠ الدمار بالعراق نتيجة التآمر عليه وحل الدمار في سوريا للسبب نفسه ، وبدأت عملية تدمير اليمن بواسطة تحالف عسكري عربي ترأسه السعودية وإنهارت ليبيا وإنهار الإقتصاد المصري وأمنه الداخلي . وأصبح الخطر الأصولي الذي كان منبعه التزمت المذهبي في السعودية يشكل خطراً على السعودية نفسها وعلى منطقة الخليج عموماً ناهيك عن باقي دول العالم العربي ، وأصبحت المذهبية سلاحاً مُسلطاً على رقاب الجميع بما في ذلك دول الخليج .
تتعامل المملكة السعودية في صراعها مع إيـران على أساس ظاهره مـذهبي في حين أن باطنه هو أكثر من ذلك . فالصراع هو في الحقيقة على قيادة الإقليم وعلى قيادة العالم الإسـلامي . والسعودية ذات المذهب الوهابي لا تختلف في ذلك كثيراً عن إيران ذات المذهب الشيعي . فالسـﱡنـَة في الإسلام لم تكن تاريخياً مذهباً . فأهل السـﱡنـَة كانوا دائماً جسم الإسلام الرئيسي كونهم الأساس والإمتداد الحقيقي للدعوة المحمدية ولحقبة الخلفاء الراشدين وهم بذلك يعتبرون أنفسهم تجسيداً لشرعية الإسلام كما جاء به الرسول محمد ولم يتوقفوا أبداً عن إعتبار أنفسهم كذلك ، وهو ما سمح لهم بالإلتصاق بالسلطة على مر القرون والتعامل مع المذاهب الأخرى بإعتبارها مارقة أو منشقة عن التيار الرئيسي . إن محاولة تقليص أهـل السـﱡنـَة الآن إلى مذهب إنما يهدف إلى تبرير المذهبية كـإطار جديد لتـحديد الهوية السياسية للمسلمين ، وفي الحالة العربية إستبدال الهوية العربية بالهوية المذهبية ، بالإضافة إلى إعطاء تبرير للتعامل مع باقي المذاهب في الإسلام بالمقياس نفسه ، بما في ذلك المذهب الشيعي .
الكثيرون يميلون إلى تحميل المملكة السعودية مسؤولية العديد من المآسي والكوارث التي أصابت العالم العربي وما تزال . وهذا تجلى في مسارين إثنين ، وإن كان هذا التحديد لا يستثني مسارات أخرى .
المسار الأول قد تجسد في تبني المملكة السعودية منذ إنشائها المذهب الوهـابي المتـزمت . وقد إستعمل آل سعود هذا المذهب في بداية نشأة الدولة السعودية لإضفاء شرعية دينية على حكمهم .
يـُعتـَبَر المذهب الوهابي الأب الروحي لمفهوم التزمت الإسلامي المعاصر الذي ترجم نفسه في تنظيمات مثل القاعدة والنصرة وأخيراً داعش . كما أن الإسلام المتزمت كان هو العدو الرئيسي للقومية العربية كما كان هو النصير السياسي والعقائدي لأمريكا والغرب في معركتهم مع الشيوعية والإتحاد السوفياتي خلال حقبة الحرب الباردة على الرغم من أن أمريكا والغرب كانوا وراء تأسيس دولة إسرائيل على أرض فلسطين العربية ، متناسين أن تطويع المال والعقيدة لخدمة الشيطان لا يجعل من صاحبها أميراً على الحق أو حتى خادماً له .
يعتبر المذهب الوهابي في نظر العديدين مسؤولاً عن الكثير من المآسي التي تعاني منها الأمة الإسلامية الآن ناهيك عن الشعب في السعودية نفسها . فالوهابية ذات الأصول الغامضة والمثيرة للجدل والمشكوك فيها أحياناً كثيرة عملت لعقود عـِدﱠةٍ كحاملة أثقال أبقت الشعب في المملكة السعودية تحت سطح الماء غير قادِرٍ على تنفس الهواء الطلق وعملت على تغليف المملكة السعودية نفسها بغلاف عازل يحجب عنها عوامل التقدم التي تطمح العديد من الشعوب للوصول إليها والتمتع بفوائدها . وقد أدى ذلك النهج إلى تفاقم نفوذ القوى الظلامية داخل المجتمع السعودي نفسه وتحولت تلك القوى إلى سيف مسلط على رقاب الجميع بإسم الدين . وهكذا تأرجحت إنجازات الحركة الوهابية بين تكريس شرعية حكم آل سعود من جهة ، ومن جهة أخرى تجميد عوامل التقدم والتطور داخل المجتمعات الإسلامية التي تسيطر عليها ، وجَعـْلِ التزمت والتعصب والتطرف والعنف صفة أساسية من صفات الإسلام مما سَهْل بروز تنظيمات مثل القاعدة والنصرة وداعش التي أصبحت الآن محور معظم التطورات المحلية والإقليمية في الشرق الأوسط وأضفى عليها صبغة دموية واضحة أدت إلى إلصاق صفة الإرهاب بها وبالإسلام المتزمت المتعصب بإعتباره الأساس الفكري والعقائدي لها .