الجديد برس : تقرير
إبراهيم محمد الهمداني
حاولت القوى الإمبريالية اللعب بمفردات الصراع السياسي والعسكري في المنطقة العربية بطريقة غير مباشرة، من خلال التحالفات السياسية والعسكرية مع الأنظمة الحاكمة، أو تبني ودعم الجماعات والفصائل ذات السياسي والعسكري، او زرع الجماعات المتطرفة الإرهابية كداعش وأخواتها في المناطق الحساسة، ثم التدخل المباشر بحجة محاربتها والحد من قوتها وخطرها، وتتميز تلك الحروب – عادة – بانعدام الحسم فيها، والمراوحة بين الكر والفر، بهدف تفعيل الحضور الإمبريالي في المنطقة، واستمرارية الهيمنة والسيطرة، التي تعود بالكثير من المكاسب السياسية والمصالح المادية والنفعية لصالح القوى العظمى، التي – غالبا – ما تتقاسم المصالح والثروات، تبعا لخارطة الولاءات والتحالفات المنجزة مع الأنظمة الحاكمة.
اتسمت التحالفات السياسية بين القوى الإمبريالية والأنظمة العربية – سابقا – بالصبغة الإقليمية، أي قبل مشروع الشرق الأوسط الجديد، فقد كانت الدول العربية منقسمة بالتساوي – الى حد ما – بين قطبي الهيمنة العالمية (امريكا وروسيا)، ولكن ذلك التقسيم التقليدي والتحالف التقليدي، اصبح مملا وغير مجدٍ، حيث الى مرحلة الجمود، نظرا لعدم قدرة تلك القوى ابتزاز واستنزاف الحكام العرب أكثر مما كان حاصلا، اذ يمكن القول ان تلك التحالفات وصلت الى مرحلة الشيخوخة والعجز، وبلغت السياسة الدولية سن اليأس والعقم عن إنجاب أي مستوى من التحولات والتغيير، الأمر الذي جعل امريكا خاصة – والقوى الإمبريالية – تعجل بتنفيذ مشروع الشرق الكبير، الذي ستكون اسرائيل ركيزته الأساس، من خلال تفعيل ما سمي بالربيع العربي، الذي حول خارطة التحالفات من الصبغة الإقليمية، الى الصبغة الجزئية الطائفية او العرقية او المذهبية او الحزبية او غيرها، الامر الذي أعطى قطبي الهيمنة العالمية موطئ قدم في كل دولة على حدة، وأفقد مسمى الدولة كيانها والنظام جماعيته، لتتسع مستويات التشظي والتفكيك الى أبعد مدى ممكن.
أصبح كل قطر عربي ساحة مستقلة للصراع الدولي العالمي، وأصبحت الأقطار العربية عبارة عن كينتونات صغيرة، تتقاسم فيما بينها الولاء لأمريكا وروسيا على السواء، وبناء على طبيعة تلك الولاءات والتحالفات والدعم، ترسم خارطة الصراع والحروب الداخلية، التي لا يستفيد منها غير تلك القوى الإمبريالية على كافة المستويات والأصعدة، ولو لم يكن غير تدخل تلك القوى في الشئون العربية الداخلية، لكفى دليلا على حقيقة تلك الأطماع الاستعمارية في المنطقة.
برزت مؤخرا صور متعددة للتصعيد العسكري والسياسي في المنطقة العربية، ابتداء من الكينتونات الصغيرة، ثم التحالفات الإقليمية ذات النطاق الجغرافي الواحد، وصولا الى تموضع القوى الكبرى، انطلاقا من قاعدة التحالفات المنحصرة بين قطبين عالميين لا ثالث لهما، التي بُني التقسيم الثنائي على أساسها، ليشق الهرم الاجتماعي والانتماء من أوسع مظاهره، الى أضيق تموضع يتمثل فيه، وصولا الى إحداث شرخ إيديولوجي على مستوى الفرد ذاته.
اتخذت عملية التصعيد في المنطقة محاور عدة، يمكن حصرها في الاتي:
1- محور أمريكا – روسيا
على مستوى الحيز الجغرافي الإقليمي السوري وما يستتبعه، حيث قامت روسيا بنشر منظومة صواريخ متطورة في قاعدتي حميميم وطرطوس ومناطق اخرى، بحجة حماية المصالح الروسية وحماية نظام الأسد الحليف الاستراتيجي، الامر الذي ازعج امريكا معتبرة ذلك خرقا وانتهاكا للاتفاقات السياسية بينهما، في حين تبرر روسيا ما فعلته بكونه ضرورة ملحة لحماية مصالح روسيا وحلفائها، بالإضافة الى تحقيق حالة من الضغط السياسي والاستراتيجي للوجود الامريكي في العراق وتقليص نفوذ حلفاء امريكا، وفي ذات السياق ألغت روسيا اتفاقا نوويا كان قد عقد بينها وبين امريكا، في حين قامت الأخيرة بدراسة الحلول الدبلوماسية والاقتصادية والعسكرية بشأن روسيا، وفي خضم هذا التصعيد الغير مسبوق، تسعى دول أوروبية على رأسها فرنسا لإيجاد حلول لهذه الأزمة، وسواء كان هذا التصعيد حقيقيا او مجرد زوبعة اعلامية وتمثيل أدوار، من اجل شرعنة دخول القوات العسكرية الأمريكية والروسية الأراضي العربية، فإن ما يثير التساؤل هو، ألا يعد دخول هذه القوات الغربية نوعا من أنواع الاحتلال؟؟ وهل ستستطيع سوريا بالذات لعب دورها الريادي في محور المقاومة مرة اخرى؟؟؟!
2- محور بغداد – أنقرة
على مستوى التحالف الدولي الواحد والثنائي في نفس الوقت، فمن ناحية يمكن القول إن التحالف العراقي الأمريكي، لا يتعدى مستوى التعاون العسكري بمستوياته المختلفة، من أجل الحرب ضد داعش والقضاء عليها، وقد ينتهي بانتهاء المهمة وبلوغ الهدف، وربما هذا هو ما جعل امريكا تؤجل الحسم العسكري في الموصل، وتماطل في الوصول الى مرحلة النهاية، ومن ناحية ثانية يمكن القول إن العراق تميل الى محور المقاومة، وترحب بالعلاقات مع ايران وسوريا وروسيا، وكونها كذلك مع سوريا يجعلهما قوة لا يستهان بها، سواء في علاقتهما مع تركيا وإسرائيل، او تضامنهما مع محور المقاومة في الجنوب اللبناني.
لذلك سعت امريكا الى اجهاض ذلك التحالف المتوقع، من خلال إبقاء العراق تحت وصايتها، وتأخير معركة الحسم صد داعش في الموصل، حتى يتسنى ايجاد مكان بديل لها في المنطقة، اضافة الى افتعال المشاكل، والعمل على ديمومتها، بين اعضاء الأحزاب والكتل السياسية في البرلمان العراقي، بما من شأنه استنزاف العراق على كافة المستويات.
ومن الجانب الاخر سعت تركيا – الحليف الاستراتيجي لأمريكا – الى تثبيت الوضع بشكل أكبر، والعمل على تعقيده أكثر، مستغلة حالة الضعف السياسي والعسكري، والخلافات في الداخل العراقي، حيث أقدمت تركيا على احتلال جزء من شمال العراق، تحت مبررات وحجج واهية ومتناقضة، في حين يرى البرلمان العراقي والحكومة العراقية في الوجود التركي على أراضيها احتلالا سافرا، ووجودا غير مرغوب فيه، ويهدد بحرب إقليمية، اذا لم تسحب تركيا قواتها.
3- محور السعودية – ايران
تزامنا مع المحورين السابقين، وخاصة محور امريكا – روسيا في سوريا، وإقدام روسيا على تعزيز وجودها في المنطقة، بما من شأنه تعزيز سيطرة روسيا على الثروات، ولعب الدور الرئيس في المشهد السياسي القادم، الامر الذي جعل امريكا تخرج عن حدود اللياقة الدبلوماسية والرصانة السياسية، في ردة فعل حيوانية آنية تخبطية جنونية، تعكس مدى الارتباك والتخبط لدى الإدارة الأمريكية، التي لم تكن تتوقع مثل هذه الصفعة، ولذلك كان من ابرز الحلول السياسية والعسكرية والاقتصادية المقدمة الى أوباما من إدارته،الإسراع في السيطرة على باب المندب، واستغلال اهميته الاستراتيجية – التي قد تفوق اهمية سوريا الجغرافية – بوصفه الشريان الرئيس للاقتصاد العالمي، لوضع قواعد اللعبة السياسية الجديدة، وتغيير معادلات الصراع في المنطقة، بما يخدم مصالح امريكا وإسرائيل.
كانت الخطة تقتضي قيام قوات البحرية الخليجية – وعلى رأسها السعودية – بهذه المهمة، كونها تمثل قوات التحالف المفوضة من هادي للقيام بذلك، تساندها في ذلك بوارج وسفن حربية من الأسطول الأمريكي المتواجد هناك، ولأن التحرك العلني غير مأمون العواقب، كانت الخطة المبرمة بين أمريكا والسعودية، تقتضي الإعلان عن قيام ما يسمى بقوات البحرية الخليجية بمناورات تدريبية في البحر العربي، انطلاقا من سواحل الإمارات، ومرورا بمضيق هرمز ثم البحر العربي قبالة الشواطئ اليمنية، وصولا الى باب المندب، حيث ستكون السفن الحربية الأمريكية قد وصلت لتوها، ومن ثمَّ تبدأ القوات المشتركة السعوامريكية بشن هجوم واسع النطاق، لتحقيق السيطرة الكاملة على المنطقة الاستراتيجية بدءا من باب المندب وصولا الى ميدي، غير ان ايران أعاقت ذلك التحرك وأجهضت المناورة المزعومة، واعتبرتها تهديدا مباشرا وصريحا لها، وتوعدت بردٍّ عنيف وقاس فيما لو حاولت تلك القوات عبور مضيق هرمز، الامر الذي حال دون وصولها حسب الخطة في الوقت المحدد، بينما أصبح حضور السفن الحربية الأمريكية في باب المندب محرجا ومخزيا للغاية، حيث عرَّى النوايا الأمريكية تجاه خصمها التقليدي – روسيا – والعالم على وجه العموم، وهو الموقف الذي لم تجد له مبررا، إلا دعوى الاطمئنان على سير الملاحة الدولية وسلامتها، حسب تصريحات الإدارة الأمريكية، خاصة بعد استهداف البارجة الإماراتية المعادية من قبل الجيش اليمني واللجان الشعبية قبالة سواحل المخا، وهو عذر اقبح من ذنب، فأين مكان الحادث (سواحل المخا) من موقع الحضور والتواجد الامريكي (باب المندب).
تلى ذلك تصريحات الناطق الرسمي باسم الجيش اليمني، الذي اعلن ان السواحل اليمنية ليست للنزهة، وكان له نتيجته على محورين :
الاول : محاولة امريكا استغلال هذا التصريح لبسط سيطرتها على باب المندب من خلال الادعاء استهداف بوارجها من قبل الجيش واللجان، ولكنها رغم محاولاتها المتكررة لم توفق، ولم تحقق اي نجاح يذكر.
الثاني : إعادة إنتاج هذا المحور مرة اخرى، بعنوان
4- محور تحالف العدوان – اليمن
من خلال قراءة الانتصارات العسكرية والمكاسب السياسية، والمواقف والبطولات الأسطورية للشعب اليمني، وربطها بالمتغيرات السياسية الإقليمية والدولية، تتضح حقيقة الدور الذي تلعبه اليمن في صنع المشهد السياسي المستقبلي، وأهمية مكانتها وحضورها الريادي، الذي لن يكون أقل من تضحيات وصمود أبنائها امام عدوان عالمي، وحرب عالمية ثالثة، تقف اليمن فيها بمفردها طرفا مواجها ومناوئا لأموال وعتاد جيوش وحكومات العالم بأكمله.
سيشهد محور تحالف العدوان – اليمن أشرس المعارك وأعنف الحروب البشرية على الإطلاق، ولن يكون ما مضى إلا بمثابة المقبلات للوليمة الرئيسة، والتدريبات الأولية القاسية، التي خاضها الشعب اليمني صابرا وصامدا، وانتصر عليها انتصارا لكرامته ووجوده، وذلك هو سبب رئيس في صنع ملحمة انتصاره الكبير، الذي سيؤهله لقيادة شعوب العالم، التي بدأت بدورها تتساءل عن هذا الشعب الأسطوري، وأسرار انتصاره، رغم فقره المدقع وشحة امكانياته، التي لا تكاد تذكر، مقارنة بأموال الخليج وترسانة الأسلحة الأمريكية الإسرائيلية وغيرها،اضافة الى الجيوش المستقطبة والمشتراة من جميع بلدان العالم، وكيف ابتلعتها اليمن رغم كثرتها وتدريبها وتسليحها وفق أعلى المستويات.
إن حضور امريكا كطرف رئيس في العدوان على اليمن، بدلا عن السعودية، التي تعد الممثل الرسمي لأمريكا وسياساتها في المنطقة، يدل دلالة واضحة على بداية استغناء امريكا عن نظام ال سعود، الذي أصبح هزيلا ومكشوفا ومقززا، ومحل نقمة جميع الشعوب العربية والإسلامية، لتضع بدلا عنه نظام حكم اخر، يقدم لها مزيدا من الثروات والهيمنة والنفوذ، اكثر مما قدم ال سعود أنفسهم، ونظرا لأن فرصة وجود ذلك الحليف ضئيلة جدا، لما سيترتب على انتشار الوعي القومي وثقافة المقاومة بين الشعوب، الرافضة لهذا الوجود الاستعماري، الامر الذي سيجعل امريكا تعمل على تهيئة الوضع لإسقاط نظام ال سعود – وقد بدأت تعمل فعلا – ومن ثمَّ تعمل على تقسيم المنطقة الى دويلات ثلاث تكون فيها مكة والمدينة دولة مستقلة، تتمتع بحكم ذاتي، وبعد ذلك ستدخل امريكا عسكريا، بصفتها الوصي الشرعي والحليف الرسمي لآل سعود، متخذة منهم ذريعة لوجودها، المناوئ للعرب والمسلمين باسم مملكة ضائعة، وبحجة استرداد ملك اسرة انتهت صلاحيتها، ولم يعد لها وجود او كينونة او حق، إلا بمقدار ما تحققه المزايدة بتلك المسميات من مكاسب ومصالح لأمريكا، وتسويات سياسية مجحفة بحق الشعوب، وهذه هي الاسطوانة المشروخة التي طالما رددتها السعودية وأمريكا في تحالفهما العدواني على اليمن، غير ان نسبة نجاح ذلك المخطط بالنسبة لأمريكا في بلاد الحرمين الشريفين، لن تكون افضل حالا من نتيجتها بالنسبة لتحالف السعودية وأمريكا في اليمن، فإذا كانت أموال الخليج وترسانة الغرب وجيوش العالم، قد فشلت في اليمن، فلن تنجح تلك الترسانة بدون اموال الخليج، وفي ظل وعي جماهيري عربي، وقيادة حكيمة وواعية لمحور المقاومة الجديد (اليمن – الخليج) .