المقالات

ترامب .. نذر القيامة

الجديد برس 

عبد الباري طاهر 
كان سقوط الإتحاد السوفيتي ومنظومته الإشتراكية مؤشر انتهاء ثنائية القطبية: أمريكا والاتحاد السوفيتي. قرأت أمريكا الأمر بأنه انتصار الإمبراطورية الأمريكية “نصراً بلا حرب”، كقراءة الرئيس الأمريكي الأسبق، ريتشارد نيكسون. قليلون هم الذين قرأوا سقوط أحد القطبين كمؤشر لسقوط القطب الآخر، أو على الأقل سقوط الثنائية القطبية وبروز عالم متعدد الأقطاب تكون الصين وأوروبا الموحدة أحد أهم مكوناته.
 
حلم استعادة الماضي مرض بشري يصيب الأفراد كما يصيب المجتمعات والطوائف والأمم؛ فأيمن الظواهري، وهو مختبئ، يعد مجاهديه باستعادة الدولة الإسلامية، نتنياهو يحلم باستعادة هيكل سليمان والتعامل مع الفلسطينين والعرب كأغيار، أردوغان يعده “وعاظ السلاطين” باستعادة سلطان آل عثمان، وآيات إيران في انتظار خروج قورش.
 
كل الحروب الإستعمارية، بما فيها الحربان الكونيتان الأولى (1914 – 1918) والثانية (1939- 1945) كانت لاقتسام العالم ونهب ثرواته. خسرت روسيا سيطرتها على أوروبا الشرقية ونفوذها ومكانتها في العديد من بلدان العالم الثالث وتحالفاتها وأسواقها، وتراجعت الهيمنة الأمريكية المطلقة على أوروبا ومنافستها على الأسواق ومناطق الهيمنة والنفوذ من قبل الصين الشعبية واليابان وأوروبا وحتى كوريا الجنوبية البلد الحليف لها.
 
بالأمس، ظن فوكوياما أن الرأسمالية كنظام كوني يعني نهاية التاريخ، وربما قال هيجل في شطح صوفي لا علاقة له بفلسفة الجدل عنده شيئاً من هذا القبيل عن حكم بروسيا. كثير من الحضارات البشرية داخلها هذا الإعتقاد. يقول صاحب رواية “موبي ديك”: “لا تستطيع إراقة دم واحد من الدم الأمريكي دون إراقة دم العالم كله. قدمنا نحن أشبه بطوفان الأمازون مؤلف من مئات التيارات النبيلة المترافدة في مجرى واحد. نحن لسنا أمة بمقدار ما نحن عالم، فكما لم نكن قادرين على أن نزعم بأن العالم كله لأبينا وسيدنا مثل ملك إبراهيم، نبقى دوماً دون أم أو أب، يبقى نسبنا ضائعاً في الأبوة الكونية الشاملة، نحن ورثة الزمن كله، ونتقاسم تركتنا مع جميع الأمم والشعوب والأقوام”.
 
تسمّرتُ أمام التلفزيون لمتابعة، أولاً، حملة المتنافسين على الرئاسة الأمريكية، وتسمّرتُ أكثر أمام المؤتمر الصحافي وخطاب الرئيس، وتابعت الإحتجاجات الإستباقية والمرافقة لحفلات التنصيب. كل تصرفات وخطاب ومفردات خطاب الرئيس ترامب لا تميزه كثيراً عن أي دكتاتور من دكتاتوريي عالمنا الثالث أو الرابع. في المؤتمر الصحافي يكرس نصف الساعة أو أكثر لنقل ملكية شركاته، والنصف الآخر لتوجيه الإتهامات والاشتباك مع الصحافة والمخابرات والدول المعادية لأمريكا. الخطاب فاجع حقاً، تفوح منه روائح الفاشية والتفرد؛ فهو يكيل الإساءة للرؤساء الذين سبقوه، عكس التقليد الأمريكي المتبع منذ إبراهام لنكولن وحتى أوباما. أخطر ما لاحظته في الخطاب أنه اعتبر نجاحه ثورة، وأن التاريخ يبدأ يوم تتويجه، وما قبله منسوخ وباطل، ثم تأكيده على الحمائية، وهي تتعارض مع أهم الأسس التي قامت عليها الرأسمالية: دعه يعمل، دعه يمر… إلخ.
 
تتعارض الحمائية الإقتصادية جذرياً مع العولمة؛ إذ تميل الحماية إلى تسوية الإقتصاديات الوطنية ودفعها إلى الإنفكاء على الذات، مما يقود إلى تقليص المبادلات التجارية الدولية، وتتعارض جوهرياً مع الإتفاقات الدولية وقرارات المنظمة المختصة بتشجيع تعميم وتحرير التجارة الدولية من كل القيود، وإقامة اقتصاد عالمي قائم على المنافسة. فالدول العظمى، وبالأخص أمريكا، سعت منذ منتصف القرن الماضي إلى تحرير التجارة العالمية، وإقامة اقتصاد عالمي قائم على أساس اقتصاد السوق الذي لا يعرف وزناً للحدود السياسية ولا للسيادة القومية. دعوته لتغيير التحالفات، ربما مغازلة لروسيا، والأخطر تأجيج للصراعات الداخلية والدولية. يقفز على المؤسسات الأمريكية القوية وعلى القيم والتقاليد العريقة فيها، ويلوح لها بشعبوية زائفة؛ فهو متصادم منذ اللحظات الأولى مع القوى الأمريكية الحقيقية، وتكون الفضيحة التي تكشفها الصور الناطقة أن المحتشدين في الشوارع العامة أكثر بكثير من حضور التتويج.
 
ينتقص من حق الأقليات، ويزدري المرأة، ويهدد المهاجرين في بلد أقام حضارته كلها على المهاجرين، وكبار زعمائه وكبار قادته مهاجرون أو آباؤهم أو أصولهم، ولم يتكون كأمة وكدولة إلا من المهاجرين، يتراجع عن الضمان الصحي، ويهدد المكسيك والصين، ويصر على نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، وهو ما لم يقدم عليه كل الرؤساء حلفاء إسرائيل، وكلهم حلفاء إسرائيل. ومنذ الساعات الأولى تعم المظاهرات مناطق واسعة من العالم.
 
في كتابهما المهم “الإمبراطورية”، يطرح المفكران مايكل هاردت، المفكر الإقتصادي الأمريكي، والفيلسوف الإيطالي، أنطونيو نيغري، قضية نشوء وسقوط الإمبراطوريات. يوجه الباحثان الماركسيان المجددان نقداً مريراً للامبراطورية السوفيتية، ولفكر اليسار التقليدي الأوروبي، ويشيران إلى أن الفساد يتخذ عدداً كبيراً من الأشكال، مما يجعل السعي إلى وضع قائمة بها أشبه بسكب البحر في فنجان. فهو كخيار فردي يعارض وينتهك التآلف والتضامن الأساسيين المحددين بالإنتاج السياسي الحيوي، ومثل هذه الإساءة الصغيرة اليومية لاستخدام السلطة ليست إلا فساداً نسبة إلى مافيا الطراز.
 
و هناك ثانياً: فساد نظام الإنتاج أو الإستغلال في الحقيقة، وهذا ينطوي على حقيقة أن القيم المستمدة من التعاون الإجتماعي للعمل يتم اغتصابها، وما كان عاماً في الأصل السياسي الحيوي تجري خصخصته”.
 
يكون النظام الرأسمالي متواطئاً كلياً في فساد عملية الخصخصة هذه؛ فعظماء الملوك ليسوا كما يقول القديس أوغسطين إلا نسخاً مضخمة عن لصوص صغار. ويضيف الكاتبان أنه “إذا كانت الرأسمالية نظاماً فاسداً لا يقوم إلا على ذكائه التعاوني، ولا يجد مسوغاً له وفقاً لجميع أيديولوجياته اليمينية واليسارية إلا وظيفته التقدمية، فإن من شأن تحلل القياس وانهيار الغاية التقدمية أن يفضيا إلى عدم بقاء أي شيء جوهري من النظام الرأسمالي”.
 
ثالثاً: في نمط أداء الأيديولوجيا أو في انحراف المعاني في التواصل اللغوي بالأحرى، يقوم الفساد هنا بملامسة ملكوت السياسة الحيوية مقتحماً مفاصله الإنتاجية، ومعرقلاً عملياته التوليدية، ولا يلبث هذا الهجوم أن يتجلى.
 
رابعاً: حين يصبح تهديد الإرهاب في ممارسات الحكم الإمبراطوري سلاحاً لحل نزاعات محدودة وإقليمية، وأداة من أدوات التنمية والتطور الإمبراطوريين، يكون التحكم الإمبراطوري مموهاً وقادراً على الظهور إما كفساد أو كدمار بصورة متناوبة، كما لو كان راغباً في الكشف عن التناغم الشديد والترابط العضوي بين الطرفين وبالاتجاهين.
 
وها نحن الآن أمام كل الفساد والدمار يرقصان متعانقين فوق الهاوية عند الحافة، وعلى أنغام الغياب الإمبراطوري للوجود. إشارة ترامب للتطرف الإسلامي تستعيد خطاب بوش الإبن، وتستجيب أو تجسد الإرث الوبيل للصراعات والحروب الدينية المقيتة؛ فهي تضع أمريكا في مواجهة العصر والعالم.
 
التطرف لا يعرف ملة ولا بلداً. أمريكا كقوة عظمى، خصوصاً في البلاد العربية والعالم الإسلامي، مسؤولة بالدرجة الأولى عن تفشي هذا الوباء. ثم إن مواجهة هذا الإرهاب الفاشي بالسلاح وحده هو الإرهاب الأكبر، ومثل هذه السياسات الرعناء مسؤولة عن خلق الإرهاب.
 
نجاح ترامب المغشوش والملتبس، وشعبوية خطابه المستفز، والتلويح بالتحالف مع روسيا، والكشف عن الترابط العضوي بين الصهيونية العالمية وإسرائيل وأمريكا، واستهداف العرب عبر تهويد القدس، وتأييد المستوطنات، و وضع مناطق آمنة في سوريا تستهدف نهب ما تبقى من قوة عربية (الثروة)، كلها مؤشر “القيامة” التي تنبع شراراتها ونذرها من خطاب ترامب غير العقلاني وغير المؤدب.
 
المصدر: العربي