المقالات

حَانِ وَقْتِ الرَّدِّ

الجديد برس : رأي

كريم الحنكي – شاعر وناقد يمني

طربت كثيراً عندما سمعتها لأوّل مرة في عدن، منذ نحو عامٍ وبضعة أشهر، بكلماتها السهلة الرائعة، وصوت المنشد العملاق الشهيد لطف القحوم عليه سلام الله ورحمته، وبلحنها المؤثر الذي يَمَسُّ أعماق النفس بأصالته وعراقة يمنيَّته وشمولها؛ فهو معروفٌ حميمٌ ومُردَّد في مختلف مناطق اليمن جنوباً وشمالا.

طربت بحيث لم أستطع مقاومة استعادة سماعها مراراً وإيقافها تكراراً لتدوين أبياتها في دفتري بقدر بالغٍ من الإعجاب بشاعرها الذي لم أكن أعرف حتى اسمه، وبشيءٍ من الغبطة (ولا أقول الحسد) لذلك الشاعر الذي أجاد نظم أسماء الكثير من قبائل اليمن وأعلامها بيُسرٍ وسلاسة أخَّاذَين، وتقديمها في وحدة موضوعية بالغة الروعة والذكاء، في زامل النكف القبلي الفريد (حان وقت الرَّد) الذي يمثل عنوان القصيد ومطلعه، بقدر ما يمثل فكرته الأساس التي يتمحور حولها وينطلق منها مطوِّفاً بين أسماء قبائل اليمن وبعض مناطقها وأعلامها وكأنه صوت اليمن وداعيه الجمعي مستنهضاً قبائله مستثيراً إياها إلى الرد الذي ينتظره اليمن منها على هذا العدوان الخارجي غير المسبوق في التاريخ عُدَّةً وعتاداً ووحشية عليه.

يقدِّم الشاعر الكبير نشوان الغولي بهذا الزامل البديع قصيدةً مفصليَّة بين مختلف روائع الشعر الشعبي وزوامله التي جادت بها قرائح شعرائنا في سياق ردِّهم على العدوان السعودي وتحالفه، والإعراب عن الشعور الوطني في مواجهته. وتُستقى مفصليَّتها في مسار هذه الحرب من التماسنا الحاجة المتكررة إلى العودة إليها والتزوُّد منها وبها عند كل منعطف من منعطفات هذا المسار وكل ذروة من ذروات الإجرام المتعددة المُرتكبة بحق المدنيين الآمنين في مساكنهم وأحيائهم وأسواقهم ومخيماتهم ومدارسهم ومستشفياتهم وقاعات أعراسهم ومآتمهم. فكل ذروة مستجدة منها تستدعي تأكيد حينونة وقت الرد والانتقال به من مستوىً نوعيٍّ وكمِّيٍّ إلى آخر يحقق اختراقاً أعمق وأشدَّ إيلاماً في صفوف العدو.

تجري القصيدة على البحر المديد المُركَّب (فاعلاتن فاعلن فاعلاتن) الذي يجمع بيد الناظم المُجيد بين الشجا والقوَّة والإطراب، ووفق النسق القافوي التقليدي البسيط (أ، ب) المألوف في هذا النمط من الشعر العامي، المُسمى (القصيد البدوي) عند بعض الدارسين، والذي يتألف البيت فيه من مصراعين أو شطرين ينفرد كلٌّ منهما بقافيته ورويه (الميم الساكنة بعد حرف صحيح متحرِّك في صدر البيت هنا، والهاء الساكنة بعد الياء المُضعَّفة في عَجُزه)، على النحو التالي:
حان وقت الرد، والبادي اظلمْ.. يا ملوك العهر والعنجهيَّةْ
النَّقا مشروع، والدَّمِّ بالدَّمْ.. يا رجال العزّ واهل الحميّةْ

بهذا التقرير الشعري البالغ الوضوح، تستهل القصيدة؛ حيث يعقب التقرير المُطَعَّم بالقول المأثور في صدر البيت الاول، نداءٌ تحذيري في عجُزه موجَّه إلى رؤوس العدوان بما يليق بفجره واستكبارهم من النعت. كما يعقب التقرير المطعَّم كذلك بالمثل الملائم للمأثور السابق، في صدر البيت الثاني، نداء استنهاضي في عجُزه موجَّه إلى عامة اليمنيين، وقبائلهم تحديداً هنا، بما يليق بموقفهم المقاوم للعدوان من الصفات وبما يستثيرهم للرد المنتظر منهم.
وبذلك يتم الاستهلال البارع الذي يحدد موضوع القصيدة ورسالتها إجمالاً، لينتقل الشاعر بعده إلى النَّكَف القبلي بالتفصيل عبر توجيه النداء مباشرة مبتدئاً بمخاطبة جبل مرَّان بما له من رمزيَّة مكتسبة خلال العقد الأخير من تاريخ اليمن السياسي الحديث بلغت ذروتها عشية هذه الحرب، وغيره من عوالي الأرض اليمنية وشوامخها:
يا جبل مرَّان، يا قرن الاعجَمْ.. يا شوامخ، يا قمم معتليَّةْ

طالباً منها:
بلِّغي كلّ القبايل تزلَّم.. البكيلية مع الحاشديّةْ

ليبدأ بذلك داعي اليمن تعداد كثير من قبائله ولو تمثيلاً لا حصراً، وبحسب ما تتيحه قيود النظم وحدوده الفنية والموضوعية. وتلك لعمري مهمة ليست بالهيِّنة.

لينتهي النكف، أو الدعوة للحشد ومواجهة ما يُستَنكَفُ منه من عدوان سافر، الموجه لتلك القبائل والمناطق متوسلاً بالفعل الملائم له (بلِّغي، واندهي، وأسلوب النداء)، بختام تلك الدعوة:
يوم شب الصوت كلا تحزم.. بالقشط والنصلة الحضرمية

تنتقل القصيدة عقب ذلك إلى خاتمتها التي يخلص فيها إلى تقرير بعض الحقائق المثيرة للحماسة وشحذ الهمم وتبليغ العدوان ممثلاً باسم الملك السعودي الذي يصفه في تصوير بديع بـ(مردم جهنم) متوعداً إياه بحتمية بَوئه برد اليمن ممثلاً بقبائله جميعاً رداً قوياً لا ريب في غلبته التي ستغير الجغرافيا :
كل ثاير حر أخر وقدم.. ما يهاب الموت يوم المنية
بلغوا سلمان مردم جهنم.. با يجيه الرد نار وشظية
شعبنا لا قد تقدم تقدم.. يبشروا بالضربة الحيدرية
با نشل ابها ووادي يلملم.. والمسا يا قوم وسط الحوية.

أجاد الشاعر إجادة مدهشة بسهولتها وامتناعها، تتضاهى معها إجادةُ اختيار اللحن الرائع الملائم لمعاني النص الشعري والجامع لخصائصه الإيقاعية والنغمية كافة، وهو المتوارث بعراقته المُتَحدِّرة من أعماق الروح والشجن اليمنيَّين في مختلف مناطق بلادنا؛ ناهيك بالطبع عن إجادة الأداء الخارق المعهود للشهيد القحوم وصوته الفذ والبالغ الانسجام والتناغم مع أصوات فريق الإنشاد البديع بدوره الحيوي المُكمِّل والمحوريّ، في هذا العمل الفني الرائع:

حَانِ وَقْتِ الرَّدِّ وِالْبَاْدِيَ اظْلَمْ
يا مُلُوكَ الْعُهْرِ، والعَنْجَهِيّةْ
النَّقا مشروع، والدَّمِّ بِالدَّمْ
يا رجال العِزِّ وَاهْلَ الْحَمِيّةْ..
يا جبل مرَّانِ، يا قَرْنَ الَاعْجَمْ
يا شوامخْ، يا قِمَمْ معتليّةْ:
بلِّغي كُلَّ القبايِلْ تِزَلَّمْ
البكيليّةْ مع الحاشديّةْ
بلِّغي مَذحَجْ وهمدان الاعظَمْ
والحشيشية مع الحارثية
وِانْدَهِيْ سفيان واولاد مِعْصَمْ
والصُّريميّة مع الخارفيّةْ
بلغي شاكر، وذيبان، وَاحْكَمْ
وِانْدَهِيْ هِرَّان واهلَ امْرِكِيّة
بلِّغي خولان والسَّبع تسلَمْ
اليمانية مع المشرقيّةْ
والمرادي يوم عيَّان يِدْهَمْ
مرحبا بالفزعة الماربيّةْ
يا حدا، يا عنس، يا اولاد مرغَمْ
يا رداع الجود يا الصالحيّةْ
يا رجال الجوف في كُلِّ مَقْدَمْ
يا دَهَمْ، يا نهم، يا الأحمديّةْ
بلغي حيدان، يَا الْقَرْنَ الَاعْصَمْ
والجماعية مع الرَّازحيّةْ
والسحارية على العزِّ تدعَمْ
من عَنَمْ، وَافْرُعْ، وتعشر، وليَّة
من بلاد الرُّوس، سنحان تِزْهَمْ
من بني بهلول، هذا و ذَيّةْ
والحيام العزّ مكسب ومغنمْ
داخليتها مع الخارجيّةْ
يا ضُلاعي، يا غُذيفي، وِيَا اخْرَمْ
يا بني الخياط والشاحذيّةْ
وانت يا الفاشق بقومك تقدَّمْ
والزرانيق الرِّجال العَصِيّةْ
يا صرابي، يا عريفي، وعَلْكَمْ
والمعالي كلَّها محبشيّةْ
بلِّغي دَمُّونِ، دَوْعَنْ، وِمَعْلَمْ
والكثيريّة، مع الصيعريّةْ
بلغي شرعب ورَسْيَان وَاقْدَمْ
بلغي إبَّ الرِّجال الوفيّةْ
يوم شَبِّ الصوت كلاً تِحَزَّمْ
بالقشَطْ والنَّصْلةْ الحضرميّةْ
كل ثاير حُرِّ أخَّرْ وقدَّمْ
ما يهاب الموت يوم المنيّةْ
بلغي سلمان مردم جهنم
با يجيه الرَّدِّ نار وشظية
شعبنا لا قد تقدم تقدم
يبشروا بالضربة الحيدرية
با نشل ابها ووادي يلملم
والمسا يا قوم وسط الحَوِيّةْ