الجديد برس : رأي
عَبدالحميد الغرباني – إعلامي يمني
لا تُذكَرُ مدينةُ الربوعة واقتحامها والمعارك التي دارت فيها وفي ما جاورها من ثكنات عسكرية سعودية تتناثَر على رقعة جغرافية هائلة إلّا ويُذكر على الفور عَبدالغني الغيلي أوْ “أبو حسن الغيلي”، وهو أحد من أَبْرَز المجاهدين الذي أداروا المواجهات مع قوى العدوان بجُهد عسكري كَثيراً ما أربك النظرية العسكرية وجعلها تقفُ مشدوهةً لا تستطيع أن تفسر كيف فشلت طائراتُ الأباتشي عن وقف تقدُّم ثُلَّة من المقاتلين في المواقع السعودية المدجّجة بعشرات الجنود والآليات والعَتَاد العسكري الأحدث شمال الربوعة؟ ثم هل يستطيعُ خُبراءُ الحرب والمواجَهات العسكرية أن يقدّموا قراءةً تفسّرُ هرولة قائد ميداني بمفرده لاقتحام موقع عسكري كبير للعدو؟ أوْ أن يقاربوا حادثة اشتباك مفاجئ لهذا القائد مع مجموعة من جيش الرياض في قطاع عسير! لا يلبَثُ هذا القائد أن يحوّلَ الاشتباكَ المفاجئَ إلى مواجَهات شرسة تحتدمُ بعد أن يلتحمَ مع أَفْرَاده والبأس اليماني فيقتحمون ثُكَناً عسكرية ويسقطون أُخْــرَى ويحرقون عدداً من الآليات العسكرية للعدو؟.
لربما أن الكثير لا يعرفون عن هذا المجاهد والقائد الفذ شيئاً! وإن كانوا قد ارتاحوا كَثيراً وكَثيراً لمشاهد الإعلام الحربي التي وثّقت بطولات المجاهدين في المحور الشمالي من قطاع عسير، ولقد حان أن نقول لهم: هذا الرجل واحد من أَبْرَز مَن صنعوا تلك الملاحم البطولية والانتصارات المدوية..
الغيلي من الهندسة الزراعية إلى خطوط النار!
وُلِدَ عَبدُالغني حمود يحيى الغيلي في مديرية الغيل بمحافظة عمران 1983 ودَرَسَ الأساسيةَ والثانوية وحصل على منحةٍ دراسية فسافر إلى سوريا وفي جامعة دمشق درس هندسةً زراعيةً، ثم عاد إلى اليمن وتزوَّجَ الشابُّ الطموح قبيل أن يلتحقَ بالمسيرة القرآنية خلال الحرب السادسة، ثم تتشبَّعُ حياتُه في منعطفاتٍ عدة، وإن كان قد برَزَ كشخصية اهتمت بالجانب الثقافي واستوعبت اطروحات الشهيد القائد السيد حسين بدر الدين الحوثي، وتميز بروحية جهادية سامية، وكان له نشاطٌ واسعٌ وكبيرٌ في بناء شخصية الأَفْرَاد بناءً ثقافياً وعسكرياً، فضلاً عن مشاركته في المواجهات في جبهتَي الجوف ومأرب.
وكان أبو حسن الغيلي على تواصلٍ دائمٍ مُذ بداية العدوان بمختلف محاور الجبهات وقادتها وحتى أَفْرَادها، كما يتحدثُ عنه رفاقُه، الذين أكَّدوا حِرْصَ الشهيد المجاهد الغيلي بشكل كبير على التواجُدِ في الخطوط الأمامية للجبهة، وتحديداً في المحور الشمالي من قطاع عسير، يقول أحد رفاقه: “إن من نتائج مرابطته في الجبهة نجاحاً هائلاً في بناء الأَفْرَاد على درجة عالية من الانضباط في الواجب الجهادي وفقاً لتوجهات قيادة المعركة”..
الصبرُ الاستراتيجي أحدُ أَسلحة الغيلي في قيادة المعركة المفتوحة!
تميَّزَ الشهيدُ الغَيلي بالصبر على المشاق وعلى تضاريس المنطقة التي قاد المواجهاتِ فيها، حيث كانت تضاريسُها أشدَّ وعورةً من غيرها من الجبهات، كما يقول مقربون منه، في هذا السياق لم ينفك أبو حسن الغيلي عن حَثِّ مجاميعه على ضرورة الصبر، ولقد حقَّقَ معهم ما يمكنُ وصفُه بـ “الصبر الاستراتيجي في المعركة المفتوحة” وقلب معادلات عدة، فيما يخُصُّ المواجهات البرية وعلى الرغم من امتلاك العدو من غطاءً جوياً وعتاداً برياً لا يوازيه عتادٌ آخر إلّا ذاك الذي تسلح به الغيلي وجنودُه الذين هبّوا للمعركة ذَوداً عن قيم الدين وثوابت الوطن وخياراته المستقلة والسيادية.
من رسائل الشهيد الغيلي المروية حول الصبر (كونوا على يقين أن هناك شيئاً ينتظرُكم بعدَ الصبر ليذهلَكم فينسيكم مرارةَ الألم، العسر لن يدوم، والشدة لن تطولَ والليل يتبعُه الفجر، الصبر أجمل العبادات، والدعاء والعمل الصالح مع الله هو ما يسحق الهموم).
إسقاط مدينة الربوعة في عسير يشابه اختراق خط برليف!
بدأ الهجومُ والاقتحام لمدينة الربوعة في قطاع عسير في 3-11-2015 بعد أن تحوّلت المدينة إلا ثكنة عسكرية مدججة بمختلف عتاد الحرب الحديث، لقد خاض المقاتلون اليمنيون ملحمة ربما هي الأكبر فبعد اقتحام المدينة سرعان ما والى المجاهدون إسقاط المعسكرات والمواقع العسكرية السعودية شمال المدينة وشرقها وغربها لاحقاً..
احتدم القتال العنيف داخل الربوعة بين مقاتلي اليمن وجنود الجيش السعودي وكسرت كُلّ الخطوط الدفاعية للعدو، لقد أخفق سلاح الجو السعودي والأَمريكي ونجحت مباغتة القائد أبي حسن الغيلي ومجاميعه لمدينة الربوعة في إرغام جيش العدوان هناك على التخلي عن تكتيكه وغرق في حرب شوارع في المدينة..
يقول الشهيد أبو حسن الغيلي عن معركة الربوعة وهو يقف أمام عدسة الإعلام الحربي (تجلت آيات الله في هذه المعارك، تجلت قوة الله سبحانه وتعالى، وتأييد الله للمجاهدين، سقطت هذه المدن والمواقع بتأييد من الله سبحانه وتعالى وبالأقلية الصابرين من المؤمنين، وقصص الحرب طويلة).
في قراءته التحليلية ومن منظور عسكري يرى العقيد دكتور/ عبده فازع الصايدي أن “اقتحام مدينة الربوعة من ناحية استراتيجية وعسكرية مثّل منجزاً عسكرياً واستراتيجياً كبيراً جداً لا يقل عن ما حقّقه الجيش المصري في اختراقه لخط برليف الذي كان يعتبره الصهاينة خطاً لا يقهر”.
ويستطرد الدكتور الصايدي فيشير إلى “أن معارك الحدود أسقطت كبرياء النظام السعودي وأثبتت تفوُّق المقاتل اليمني وتحقيقه للنصر في المعارك البرية، ولعل العالم يدرك أن المعارك البرية هي المعارك الحقيقية التي تثبت كفاءة أي طرف في المواجهة قادر على السيطرة؛ لأنها تجري وجهاً لوجه وتظهر مدى شجاعة المقاتل وقد استطاع المقاتلُ اليمني أن يحقِّقَ انتصاراً حقيقياً في المعركة البرية واستطاع التفوُّق من حيث التخطيط والتنفيذ والصمود).
الخبيرُ الاستراتيجيّ الصايدي يذهب إلى أن (القائد لاقتحام الربوعة وما جاورها من ثكنات عسكرية كان محورَ ارتكاز في العمليات، هو مَن قام بالتنسيق هو مَن قام بالإعداد هو من قام بالتنفيذ مع مجاميعه، وبالتالي استطاع هذا القائد مع ثُلَّة من رفاقه وجنوده تحقيق الانجاز الكبير”.
المشاهد التي وزعها الإعلام الحربي في تلك الفترة ما تزال عالقة في الوجدان اليمني، وهناك في الربوعة ما تزال آثار الحرب الضروس والمعارك الضارية التي جرت في المدينة محفورة في كُلّ منعطف وزاوية ومبنى منها، لقد ترك اليمنيون هناك بصماتِهم التي لا يمكن أن تنمحي أَوْ تزال أَوْ يهال عليها الترابُ حتى ولو صدأت عشرات الآليات العسكرية السعودية الأَمريكية الصنع أَوْ جرى الخلاص منها..
لا بد وشيء ما سيظل ماثلاً هناك يستحضره الجميع وسيتوقف الجميع، إنه عنفوان المقاتل اليمني الذي كان يهب بالكلاشنكوف وبالمتوسط من السلاح ليحرق فخر الصناعة الأَمريكية، في حالة لم تُسجَّلْ في تأريخ المواجهات من ذي قبل..
لم يقاتل اليمنيون بمفردهم في المعارك التي خاضوها هناك في الربوعة وما يحاذيها من مواقع عسكرية، لقد قاتل معهم وجعُهم وألمُهم الكبير الذي صنعته جرائم العدوان التي تخطفت اليمنيين في كُلّ منزل وسوق..
إقتحامُ قيادة حرس الربوعة والمواقع تحول استراتيجي في المواجهة!
تتوسع القراءة العسكرية للصايدي للعمليات في المحور الشمالي بقطاع عسير فتذكر أن (الحروب العسكرية هي عبارة عن إدارة، إدارة الحروب من وحدة القيادة والأمر)، ويضيف الصايدي وهو يشير إلى النجاح الفائق للسيد عَبدالملك الحوثي في إدارة المعركة مع العدو وتوجيه معادلات الرد والردع”، قيادة المعركة الكلية والمصيرية كانت من أَسباب النجاح، معارك المقاتلين اليمنيين في عسير وغيرها من الجبهات الخارجية بينت أن المقاتل اليمني تحت قيادة فذة ومجربة وأن ثمة علاقةً بين القيادة والجندي الميداني وطيدة، بحيث أمكن أن تنفذ مثل هذه العمليات بهذه الدقة دون تراجع ودون هوادة”.
من منظور عسكري يظل (نقل المعركة بحد ذاته إلى الربوعة والمواقع العسكرية السعودية المجاورة لها في ظل السيطرة الجوية للعدو معجزة حقيقية وعملاً بطولياً كبيراً وتحولاً استراتيجياً وهذا يدل برأي الأكاديمي بكلية الشرطة عبده الصايدي “أن هناك عقولاً خططت للمعركة ودرست المنطقة بدقة وراقبت وفي الأخير باغتت العدو في عقر داره وحققت انتصاراً غير مسبوق).
يستذكرُ رفيق الشهيد الغيلي، عَبدالحكيم الحامس، قصةً حدثت مع الشهيد أبي حسن، فيقول: (في ذات مرة ترك المجاهدون موقعاً عسكرياً كانوا قد سيطروا عليه، وخلالَ جولة استطلاعية للشهيد القيادي أبي حسن الغيلي وَجَد أن عناصرَ من عناصر العدو قد تسلّلت إلى الموقع وبدأت تستهدفُه بوابلٍ من القنابل اليدوية، فوقف أبو حسن لمواجَهة العدو بصلابة واستدعى عبرَ الجهاز اللاسلكي مجموعةً من المجاهدين ثم أحدثوا بعد ذلك اقتحاماً لذلك الموقع ومواقعَ مجاورة سقطت في غضون دقائقَ معدودة، وتم تدمير خلال هذه العملية بمفردها أَكْثَــرَ من 18 آليةً عسكريةً، فضلاً عن مصرع أعداد من الجيش السعودي بشكل يُثيرُ الدهشة ويعكِسُ مدى العَون الإلهي للمجاهدين.
الغيلي أسطورةٌ بعيون أَفْرَاده ومن راقب جهده العسكري
عاش أبو حسن الغيلي مع مجاميعه كفَرْدٍ منهم وليس كقائد، كما كان محمودَ السيرة طيِّبَ السُّمعة عند الجميع ويشهدُ له كثيرون بحِرْصٍ مميز على مقتنيات العمل الجهادي صَغُرَت وَكبرت، ويروي شقيقُه ماجد الغيلي أن أبا حسن الغيلي ذات مرة وهو عائدٌ من الجبهة لزيارةِ أُسرته تعرَّضَ لحادثٍ مروريٍّ أدَّى إلى تضرُّر السيارة التي يقودُها بشكل كبير فطلب من أُسرته تحمل تكاليف إصْلَاح السيارة التابعة لعمله؛ كونه كان في زيارة شخصية وليس في إطار عمله، وما كان من الأسرة إلّا أن نفّذت ما أراده أبو حسن الغيلي) وهذا يعكس إلى درجة كبيرة حرْصَ الشهيد الغيلي على الحفاظ على ممتلكات العمل الجهادي وعدم استغلالها شخصياً واعتبار ذلك جزءً من الاخلال في العمل المناط به.
وأكد بعضُ رفاقه في المعارك بعسير أنه كان كثيرَ التشديد على تجنُّب أخذ أوْ اقتناء أَي شيء من ممتلكات المواطنين في المناطق التي سيطر عليها المجاهدون في قطاع عسير، وهو أمرٌ دَأَبَ عليه المجاهدون جَميعاً، فمَن باع نفسه لله لا يمكن أن يستهويَ نفسَه متاعٌ بسيطٌ هنا أوْ هناك
يقولُ الخبيرُ الاستراتيجيُّ والأكاديمي بكلية الشرطة عبده فازع الصايدي: (الشهيد الغيلي هو أسطورة بكل ما تعنيه الكلمةُ من معنىً، ومع إني لم أعرفه شخصياً، وإنما تابعتُ وراقبتُ المعاركَ التي خاضها مع رفاقِه في المحور الشمالي بقطاع عسير، يمكنني القول إنه قائدٌ غيَّرَ مجرى المعارك، واستطاع أن يُلغيَ نظرياتٍ عسكريةً كانت على درجة عالية من الثبات والديمومة في كثيرٍ من مناهج الكليات العسكرية، لقد أتى بنظرياتٍ عسكريةٍ عملياتية نُفّذت على الأَرْض وستستوعبها النظريةُ العسكرية مستقبلاً).
ختاماً ونحن نتحدث عن هذا البطل العظيم والذي قدَّمَ مع رفاقه عشراتِ التجارب العملية أن المقاتل اليمني هو الماردُ الأشجع على مستوى العالم، نؤكّد أن عدوَّنا الأحمقَ لا يعرفُ شيئاً عن هذا البطل الهُمَام، وأن كُلَّ هذه المعلومات تكشف فقط إلى أَيِّ مدى يعيشُ عدونا ضعفاً استخباراتياً، وأنه مجرد منظومة هشّة يديرُها آخرون ولن يفلحوا جَميعاً في تركيع العنفوان والمارد اليماني.