الجديد برس : رأي
صلاح الدكاك – كاتب وصحفي يمني
الأسبوع الفائت كان حافلاً بمجريات محلية وإقليمية ودولية شتى ذات صلة مباشرة وغير مباشرة بالمشهد اليمني على عتبة عام ثالث من العدوان الأمريكي السعودي على اليمن.
ـ الرئيس الأسبق لـ(اليمن الديمقراطية ـ الشطرية سابقاً) علي ناصر محمد، يعود إلى الواجهة من بوابة لقاء مع المبعوث الأممي ولد الشيخ في موسكو عاصمة روسيا الاتحادية..
ـ الإمارات المتحدة توصد أبوابها أمام (العميل هادي) بفجاجة وازدراء.
ـ ملك الزهايمر سلمان يغادر الرياض في رحلة طويلة خارج المملكة قد تكون رحلة اللاعودة حد مراقبين ووسائط إعلام عربية وأجنبية.
ـ شفاه بكين المطبقة إزاء اليمن تغمغم أخيراً وتُحذِّر تحالف العدوان من مغبة إنشاء قاعدة بحرية أمريكية إماراتية مصرية في جزيرة (ميون) اليمنية، معتبرة ذلك تهديداً للملاحة الدولية والمصالح الاقتصادية الصينية.
ـ إيران تهدد بتدمير أهم المراكز الإسرائيلية في غضون 7 دقائق في حال شرعت (تل أبيب) في شن عدوان عسكري عليها.
ـ المعارض السوداني الصادق المهدي، رئيس حزب الأمة، يعود إلى الخرطوم، ويكشف للإعلام مناهضته تدخل بلاده عسكرياً في اليمن، ويعتبر هذا التدخل (خطأً قاتلاً وخطيراً جداً جداً).
مجريات كهذه لا سابقة لها من حيث الوفرة والمغايرة في تعبيرها عن إلحاح المشهد اليمني، لم تكن لتتخلق لولا انهيار رهانات تحالف العدوان الكوني تباعاً تحت أقدام المقاتل اليمني الراسخة في الذرى والسهول والأودية والصحارى وكثبان الرمال الساحلية على امتداد رقعة ومفاصل جغرافيا الجمهورية اليمنية الحساسة والحاكمة لما سواها من أنحاء ضمن الخارطة.
مزج المجريات السالفة ببعضها البعض يقطع ـ في صورته الإجمالية ـ بأن العالم بدأ يقلق إزاء تداعيات مقامرة العدوان على اليمن، وهو ما استشرفت صحيفة (لا) حتمية حدوثه، في أعداد سابقة لها، من خلال مقاربتها لأفق إمكانات الرد والردع اليمنية بحراً على وجه التحديد، في ظل خفة حسابات العدو المتكئة على ثقل ونجاعة عتاده العسكري الكفيل بحسم معركة الساحل الغربي في زمن وجيز طبقاً لاعتقاده.
مبعث قلق الصين يكمن في انحراف مسار العمليات العسكرية لتحالف العدوان عن هدفها المعلن، والمتمثل في (إعادة الشرعية)، صوب بسط اليد على الجغرافيا المائية الناظمة لممرات الملاحة الدولية دون أية شرعية، وفي ظل (غياب حكومة يمنية)، طبقاً لخارجية بكين.
على أن قلق التنين الأصفر في هذا الطور من عمر الاشتباك، كان سيأخذ شكل حسرة مكتومة لا حيلة للتعبير عنها فيما لو نجح (الرمح الذهبي) ـ وهو اسم العملية الكبرى للتحالف في الساحل الغربي ـ في بلوغ مراده، ولم يتكسر تحت أقدام محاربي الجيش اليمني واللجان الشعبية، إذ إن السيطرة على جزيرة (ميون) من قبل التحالف، كانت ستبدو امتداداً لا لبس فيه لسيطرته على محافظتي (الحديدة ـ تعز) المتاخمتين للبحر الأحمر ومضيق باب المندب، والموضوعتين كهدف رئيس لعملية (الرمح الذهبي).
لقد استدعى فشل هذه العملية وانتقال المقاتل اليمني من طور الدفاع الاحتوائي إلى طور المبادأة والهجوم، متغيَّراً سياسياً آخر لافتاً هو لقاء (علي ناصر ـ ولد الشيخ في موسكو).
فحيث سعى تحالف العدوان لتجيير طاقة الحراك الجنوبي كقوة للمضي في تمزيق محافظات شمال اليمن، متلافياً الاصطدام بتناقضاته الفصائلية عبر توظيفها في هذا المسار، فقد انكفأ زخم هذا التجيير بقوة مضادة على محافظات جنوب اليمن حين اصطدم بسياج الرد والردع من جانب الجيش واللجان في معارك الساحل الغربي، وكان من أبرز تداعيات نكوص مساعي التحالف في هذا الصدد، فقدانه القدرة على المضاربة بـ(شرعية هادي) مجدداً بالتوازي مع ثبوت عدم صدقية وعوده للحراك بـ(دولة جنوبية)، وأفدح من ذلك انفضاح أطماعه الاستعمارية على نحو لا يثير مخاوف اليمنيين فحسب، بل ومخاوف الصين وإيران وعمان والهند بصورة مباشرة.
لقد بات الاشتباك أو يوشك أن يغدو دولياً، وهو ما حرصت (واشنطن) منذ البدء أن تتحاشاه عبر إيكال مهمة التدخل العسكري إلى أدواتها الإقليمية من عربان الخليج، وتحت يافطة مموهة بـ(مخاوف عربية إزاء نفوذ إيراني).. أما وقد بات الاشتباك ذاته مخيفاً لـ(الصين،…)، فلا مناص من القبول برؤية صينية ـ إيرانية وازنة فيه على مضض بالنسبة لـ(واشنطن ـ لندن).
إذ إن البديل لهذا المسار السياسي الواسع هو الاشتباك العسكري المباشر بين القوتين العظميين وتقاطعات أحلافهما في المنطقة..
كنتاج لهذا الفهم، وترتيباً عليه، يمكن قراءة احتضان موسكو (لقاء ناصر ـ ولد الشيخ) باعتباره إعادة صياغة واسعة الطيف للأزمة اليمنية و(الأزمة في اليمن)؛ صياغة تراعي مخاوف الأطراف الإقليمية والدولية المتباينة إزاء راهن الاشتباك ومستقبل العملية السياسية في اليمن.
في هذا السياق جاء خبر وكالة الأنباء الروسية الخاصة (سبوتنيك)، والمتضمن (حاجة الأمم المتحدة لإنشاء لجنة للتسوية في اليمن)، بما يعني ديبلوماسياً طي صفحة الوسيط الأممي الأحادي لجهة طيف وسطاء، كما وطي صفحة (شرعية هادي) لجهة بدائل سياسيين يتوافرون على مزية استقطاب توافق جنوبي شمالي حراكي أنصاري مؤتمري، حد تقدير كواليس التفاهمات الدولية والإقليمية التي يبدو أن اختيارها وقع على الرئيس الأسبق الصامت والمراقب للأحداث عن كثب (علي ناصر محمد).
بالتعريج على حوار أجراه الزميل (علي جاحز) لصحيفة (البديل) المصرية، الأربعاء الفائت، مع الرئيس صالح الصماد، نعثر على وفرة مؤشرات حول أزوف مسار تفاوضي جديد ليست القوى الوطنية بمنأى عن أجوائه ومجريات كواليسه.
يشير الرئيس الصماد، على نحو صريح، إلى تهديد نشاطات التحالف العسكرية في البحرين الأحمر والعربي، بصورة مباشرة للصين، بما يعني الرغبة في الدفع بالمقاربات السياسية للأزمة في اليمن إلى أفق أرحب دولياً.
وكان وفد رفيع من حركة (أنصار الله) زار الصين رسمياً نهاية العام الفائت، وأعقبها بزيارة إلى روسيا، وعلى غراره زار وفد رفيع من المؤتمر الشعبي العام (موسكو) في فبراير الفائت.
جولات العصف السياسي تلك تنبئ عن يقظة سياسية حاذقة في تثمين المتغيرات على الأرض، وذات دراية بنقاط الضعف في أوساط قوى العدوان، بما يجعلها قادرة على استثمارها ضمن نطاق دولي واسع ومتباين يتكشف اليوم أكثر من ذي قبل.
ليس صحيحاً ـ برأيي ـ القول بقدرة السعودية على شراء موقف روسي مؤازر للعدوان على اليمن، فالروس لا يسعهم الحضور في الملف اليمني إلا من البوابة الإيرانية الصينية الوازنة من حيث مخاوف مرتبطة بالمصالح الاقتصادية لـ(بكين)، أو التهديد الوجودي المباشر والملح الذي تقع (طهران) في بؤرته بفعل الموقع الجيوسياسي لها. وعليه فإن (موسكو) غير قابلة للحركة خارج هذين الاعتبارين لحليفيها الصيني والإيراني، أياً كان الثمن السعودي الإماراتي.
على أن التعويل الوطني من الدفع بأفق الاشتباك سياسياً حول الملف اليمني إلى أفق دولي واسع ومتباين، ليس مُنصبِّاً على تحقيق خلاص وطني ناجز، بل تحقيق انفساح على مستوى الخيارات التفاوضية لجهة ضمان عائد عملي ينهي العدوان ويرفع الحصار ويتيح لقوى الداخل مقاربة المعضلات المحلية بمنأى عن وصاية الخارج أو التفاوض بالإنابة عن أطماعه.
مصر مع التحالف؟! أم مع العدوان؟!
وفقاً لتأكيد الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، في تصريحات صحفية سابقة، فإن (القاهرة) لم تدفع بقوات برية إلى أتون الاشتباك في أي بلد عدا حضور عسكري بحري، اكتفى السيسي بالقول إنه لضرورة الأمن الحيوي المصري، ودون حاجة لتسمية مكان هذا الاشتباك والحضور من طرفه، فإن اليمن والبحر الأحمر تحديداً هو المقصود به.
التأليب السعودي للسودان وإثيوبيا ضد مصر، غير خافٍ، فما الذي يجعل (القاهرة) تجدد تأكيدها الاستمرار كعضو في (تحالف عاصفة الحزم)؟! كما حصل نهاية فبراير الفائت!
على محمل حسن الظن بوسعنا تفهُّم التحاق مصر بتحالف العدوان منذ البدء (صورياً) لتلافي انهيار الاقتصاد المصري المكبل بالديون الخليجية، كما والأمن المصري الواقع تحت رحمة (داعش السعودية)..
لهذه الاعتبارات وجدت مصر نفسها عضواً في التحالف، وتدريجياً أخذت تنتهز الفرصة للتنصل منه، غير أن البديل لها على طاولة الخيارات الأمريكية الخليجية هو (حضور إسرائيل)، واستمراراً لحسن الظن فإن مصر وجدت نفسها مضطرة مجدداً لأن تملأ فراغاً آيلاً للامتلاء بـ(إسرائيل)، ليس انطلاقاً من العقيدة القومية القديمة التي ترى في الأخيرة عدواً للعرب، بل من منطلق براغماتي شديد البساطة والمباشرة يرى في إسرائيل جاراً متسلطاً يجدر تفويت فرص مزاولة التسلط أمامه عبر لعب دوره والانزلاق في مخطط العدوان على بلد عربي كاليمن، كخيار لا مناص عنه لمصر حد اعتقاد قيادتها.
إلى ذلك، فإن العلاقات الجيدة بين القاهرة وأبوظبي قد فقست أسوأ بيوضها في صورة (قاعدة أمريكية ـ إماراتية ـ مصرية) في جزيرة (ميون) اليمنية، فاتسعت بالنتيجة الهوة التي كان من مصلحة (مصر السيسي) تقليصها في العلاقة بينها وبين (الصين) وتالياً (روسيا) كحليف للتنين الأصفر.
الأمر الذي يشير إلى أن إمكانية خروج مصر من غابة الأصفاد والكلبشات التي تغلها بمحور التبعية لأمريكا ووكلائها الإقليميين، تبدو صعبة المنال على المدى البعيد المنظور، حتى مع كون المقاربة المصرية للأزمة في سوريا، مغايرة للمقاربة الأمريكية. إذ ليس من المنطق بالمطلق أن تكون ضد تفكيك الدولة السورية ومع احتلال اليمن في ذات الوقت.
إن مصر تغرق في مستنقع تبعات العدوان على اليمن من حيث تعتقد أنها تتلافى الغرق.. هكذا فإن المراوحة في خانة (مع التحالف لا مع العدوان) تبدو بائسة ولا تشفع لها كطرف متواطئ حد الضلوع في مخطط تمزيق اليمن واحتلاله.
الخيار اليمني.. أولاً وأخيراً
في البدء كان الصمود والمجابهة، وفي الخاتمة وجيلاً بعد جيل سيبقى الصمود والمجابهة رهان اليمنيين الشرفاء الذين رفضوا أن يتنازلوا عن رؤوسهم على مذبح العدوان العسكري، واختاروا المواجهة، ويرفضون لذات المبدأ أن يتنازلوا عن رؤوسهم على مذبح تسوية سياسية، يحاول المجتمع الدولي المنافق تمريرها كمعادل موضوعي لأهداف أخفق التحالف الأمريكي السعودي في تحقيقها عبر العمليات العسكرية.
وسواء كان الوسيط في هذه التسوية ـ التي يجري العمل عليها في الكواليس ـ روسيا أو الصين أو إيران وعمان، فإن الشعب اليمني وقواه الوطنية يدركون جيداً ما يتطلعون إليه من مستقبل لبلدهم، والمسار الواجب سلوكه وانتهاجه صوب هذا المستقبل، وأن العالم الذي يتسابق عديده اليوم لصياغة مبادرات (الحل السياسي)، لا يفعل ذلك من قبيل الرأفة باليمنيين، أو استشعاراً للحاجة الملحة إلى وقف حمامات الدم في اليمن، وإنما خشية من أن يفلت القرار اليمني كلياً من ربقة الوصاية بالنسبة للبعض، أو لأن ارتدادات اصطدام مشروع العدوان العسكري بحائط الصمود الشعبي الصلب وبسالة مقاتلينا، توشك أن تطاله بالنسبة لآخرين.
لا أوصياء على اليمن الناضج بما فيه الكفاية لسداد كمبيالة الحرية والاستقلال حتى قطرة الدم الأخيرة؛ وستبقى فوهات البنادق الشريفة البطلة والعصامية هي البوصلة الصائبة في خضم ملحمة الدفاع الوطني الكبرى.
وإذا كانت عبارة (نجوع ولا نركع)، حتى وقت قريب، محض شعار مجازي لا صلة له بواقع الفعل، لدى معظم الشعوب المتبتلة به، فإن هذه العبارة هي ما يترجمه الصمود اليمني على محمل الجد ومسرح المواجهة واقعاً لا شعاراً مجازياً.. لن تتحول أشلاؤنا وضفائر تلميذاتنا إلى مراثٍ وتغريبات ومواويل حسرة، وإنما سترتفع أقواس نصر ومعارج للمجد على الأرض، وفراديس خلود عند سدرة المنتهى.