المقالات

قمّة التنازُلات العربية في عمّان.. تحية لترامب وعهده الميمون!

الجديد برس : رأي 

طلال سلمان

صار بحُكم القاعدة أن تشكّل كُلّ قمة عربية جديدة انحدارًا عن القمة السابقة، لكأنها مباراةٌ في سرعة السقوط إلى وهدة التنازلات.
لقد ذهب مَن كانوا يشكلون رافعة النهوض من أجل بناء الغد الأفضل، في ظل الجهد من أجل التحرير، بالجيوش كما بالكفاح المسلح الفلسطيني الذي يحظى برعاية عربية تحميه وتحصنه من الانحراف كما من التواطؤ عليه لتصفيته..
ولقد تحولت المقاومة الفلسطينية التي قدمت نماذجَ باهرةً في افتداء الأرض المقدسة بالدماء الطاهرة للشهداء الأَبْرَار الذين تلاقى في أفيائها الفدائيون من أقطار عربية عدة مع إخوانهم الفلسطينيين فأكدوا الحق بالدماء الطاهرة..
وهكذا لم يتبق على مقاعد القيادة، إجمالًا، إلّا المستفيدون من الهزيمة والعاملون لاستكمالها في ظل تناقص المقاومين الذين استهلكتهم “السلطة” التي لا سلطة لها، أَوْ مناخ الحروب الاهلية الذي عم الأرض العربية بديلًا من مناخ الثورة.
إن التواطؤ على “القضية المقدسة”، ومن ثم على المستقبل العربي يحكم المكان والزمان وجدول الأعمال في قمة عمان.. للمصالحين العرب.
عمّان التي كان حكمها الملكي، الذي قام بالأصل على حساب فلسطين فضلًا عن سوريا، أول من رفع السلاح في وجه المقاومة الفلسطينية التي استضافها، مُكرهًا، مستثمرًا رصيدَها الشعبي الواسع، ثم ترك لفوضى السلاح أن تستشريَ حتى أثارت قلق الناس، فانقلب عليها وقاتلها حتى أخرجها من عمّان، ثم من الأردن جميعًا. لم تجد إلّا لبنان الأضعف من أن يرفُضَها والأقوى ـ بنظامه الطوائفي ـ من أن يكون بيئتها الحاضنة وطريقها إلى فلسطين… وهكذا أغواها ضعفُه بأن تكون “سلطة بديلة” لتنقلبَ إلى متسبّب ـ بقوة الأمر الواقع ـ إلى طرف مباشر في حرب أهلية مدمرة، لها وللبنانيين، ولجمهور المقاومة في مختلف أنحاء الوطن العربي.
إن المقدمات والظروف المحيطة توحي بالنتائج وتكاد تكتبُ مقرّراتِ التنازُلات الخطيرة التي ستتمخض عنها هذه القمة التي أعد المسرح، بإتقان؛ لتكونَ قمة الصلح بشروط العدو، أي قمة الاستسلام الصريح.
إن المقدمات “تبشر” بالنتائج.. ومنها:
إن واشنطن المتحالفة حتى التوحد مع تل أبيب قد باتت المرجعية المطلقة لعموم الأنظمة العربية.
وجدولُ لقاءات الرئيس الاميركي الجديد الذي لا يخفي ولاءَه لإسرائيل وإعجابه العظيم برئيس حكومتها العريق في صهيونيته نتنياهو، يحفل بالضيوف العرب، من زاره فالتقاه فعلًا منهم، ومن ينتظر موعده بعد القمة مباشرة ليؤكد عبره وفاءه بما تعهد به من “الجنوح إلى الصلح”.. بغض النظر عما إذا كانت دولة العدو تجنح لمثله أَوْ تتجاهله.
لقد التقى الرئيس الأميركي ملك الأردن ومشروع الملك السعودي الجديد، الأمير محمد بن سلمان، ورئيس حكومة العراق… وعلى جدول أعماله موعد للقاء الرئيس المصري، ووعد بلقاء قريب مع رئيس السلطة الفلسطينية التي لا سلطة لها، محمود عباس في سابقة تستحق المزيد من التنازلات ردًا لجميل المبادرة بدعوة هذا “الرئيس لأول مرة”..
ومؤكَّدٌ أن شيوخَ الخليج ينتظرون مواعيدهم للقاء مرجعيتهم، وهم قد بادروا باعترافات بعضهم علنية وبعضها مموهة بدولة الكيان الصهيوني..
هذا يعني أن مقررات القمة قد كتبت سلَفًا بما يرضي واشنطن ورئيسها الجديد، ويؤكد اسْتمرَار مسيرة الصلح بشروط المحتل الإسرائيلي الذي من حقه الآن أن يزيد من تشدده، فيسرع من عمليات مصادرة الأراضي في الضفة الغربية (المفترض انها ـ نظريًا ـ في عهدة السلطة…) وبناء المزيد من المستوطنات..
وهذا يعني أن القمة لن تتوقف كثيرًا أَمَـام قرار نتنياهو باعتماد القدس “عاصمة أبدية للكيان الإسرائيلي”… وهو سيتسلح الآن بأن الموانع التي جعلت واشنطن تتردد في نقل سفارتها إلى القدس قد سقطت بتسليم العرب مجددا… كما سلّموا من قبل فاستسلموا لمعظم ما قررته السلطات الإسرائيلية متصلًا بمستقبل فلسطين ومساحة أرضها ومصير أهلها الرافضين بلا قدرة على تبديل.. المكتوب!
إن المقدمات توحي بالنتائج: فالقمة العربية العتيدة تعقد في مبنى لا يبعد كثيرًا عن مقر السفارة الإسرائيلية في عمان… وهي تكاد تكون ـ بما تمثل ـ شريكة في قرار المملكة الهاشمية..
ثم أن الأمين العام لجامعة الدول العربية هو وزيرُ خارجية التطبيع الممتاز والمتفوق في تسريع التطبيع ليشملَ مناحي الحياة كافة… ثم أنه طالما قام بزيارات ودية شملت لقاءات تفاهم استثنائي مع المسؤولين الإسرائيليين مرفقة بابتسامات عريضة (وإن كان فاته أن يشاركَ في الصفقة المميزة التي ستبيع فيها إسرائيل الغاز إلى مصر ـ بعد الأردن ومعه ـ وهو غازٌ مستخرج من مياه عربية، بعضها يخُصُّ لبنان، وبعضها الآخر يخُصُّ فلسطين وبعض ثالث ربما كان يخُصُّ مصر ذاتها).
بالمقابل فإنه يتباهى بأنه ـ ومن موقع المسؤول ـ ملتزمٌ بالقرار السابق الصادر عن الجامعة العربية، بقوة المال القطري وتواطؤ الراغبين بمصالحة العدو ـ والقاضي بتعليق عضوية سوريا في الجامعة، وبالتالي بالامتناع عن دعوتها للمشاركة في قمة عمان.
لقد تناقضت حتى اندثرت تلك الأَكْثَرية التي قررت في قمّة الخرطوم، بعد هزيمة 1967، ثلاثيتها الشهيرة: لا صُلح، لا مفاوضة، لا اعتراف.
صارت الأَكْثَرية الآن في الجانب الآخر، بعدما رحل المقاتلون على جبهة فلسطين، في حين تزايد عدد المعترفين بالكيان الصهيوني إلى حد أنهم باتوا يمسكون بقرار القمة، بعدما تمكنوا من الإمساك بالجامعة العربية فطردوا منها سوريا، وما زالوا يتمسكون بهذا القرار تأمينًا لاسْتمرَار الحرب فيها وعليها.
ثم أن ليبيا القذافي قد اندثرت، والعراق الآن في العناية الفائقة، واليمن باتت يمنَين إحداهما مستعمرة سعودية والثانية يمن تنهش سعادته الصواريخ الشقيقة والفقر المدقع والجوع والمدن المفرغة من اهلها هربًا من غارات الطيران الأخوي… وباتت “جزر القمر” هي الصوت المرجح.
لقد سقطت من الذاكرة ومن جدول أعمال القمة كلمات مثل “ما أُخذ بالقوة لا يستعاد إلّا بالقوة”، و”حي على السلاح” و”التحرير هدفنا وطريقنا”.
إنها قمة ترامب..
ومن الواجب أن يستقبل أهل النظام العربي الرئيس الأميركي الجديد بما يليق من هتافات الترحيب والتأييد والتعهد بتسهيل مهمته، بأن يقدموا اليه هدية تناسب مقامه..
وليس مثل فلسطين، أَوْ ما تبقى منها، هدية تناسب المقام.
وفي أي حال فإن الأنظمة العربية قد تعبت من هذا الحمل الثقيل، وآن لها أن ترتاح…خصوصًا وأن “السلطة الفلسطينية” تستحثهم وتكاد تسابقهم في التنازل، وهي ـ من قبل ومن بعد ـ صاحبة “القضية المقدّسة” والمفوضة للتصرف بها.
وهكذا يثبت العرب تقدمهم: فهم في كُلّ قمة عربية جديدة يقدمون المزيد من التنازلات لإنجاح القمة..
والقمة أهم من القضية..
والبيت الأبيض أهم من القدس: فهو يعطي والمدينة المقدسة تأخذ، ولم يعد لدى العرب ما يعطونه!
*نقلًا عن الشروق