الجديد برس
لا يشير لسان المسؤولين الغربيين (والعرب التابعين) السليط إلى هول مجازر طائرات «التحالف» في سوريا والعراق. تريد واشنطن أن تُخرج عبر آلة حربها الجبّارة وسطوتها على الإعلام والحكومات، صورة لأبطال يُنقذون البلدين من «داعش». المشهد يجب أن يكون مختصراً بـ«سفاحين لهم أهداف سياسية في المحور الآخر» مقابل مُحرِّرين لا يقاتلون سوى الإرهاب.
أكثر من 4000 مدني حصدت أرواحهم واشنطن وحلفاؤها منذ اقتحامهم الأجواء السورية والعراقية. هؤلاء لا بواكي عليهم، ولا حقوق لأهاليهم، ولا قصاص لقاتلهم. هم «أضرار جانبية»… فـ«المخلِّص» الذي اعترف أخيراً بـ600 منهم، منهمك في بناء الديموقراطية في بلادنا
«أعتقد أنها كانت ضربة نظيفة». هكذا، بكل بساطة، علّق قائد القوات الأميركية في العراق، ستيفن تاونسند على ضربة «التحالف الدولي» في قرية المنصورة في ريف الرقة أواخر شهر آذار الماضي. سقط زهاء 300 ضحية من المدنيين الهاربين من أهوال الحرب في المدرسة المُستهدفة.
الجنرال أكد أنّ القتلى هم من تنظيم «داعش». أياماً بعد الضربة، ظهرت تقارير عن طبيعة الهدف. لم يرتفع الصوت إلا في الإعلام الألماني وبعض الجمعيات الحقوقية، نظراً إلى تقديم طائرات استطلاع ألمانية صوراً للمدرسة قبل القصف بيوم واحد.
صاحبة التقنيات الحديثة لم تدّخر سبباً لاستهداف كلّ موقع تشكّ فيه، لكن الإعلام الموجّه لا يبحث عن «جزّارين» إلا في دمشق وموسكو.
مئات الضحايا (فضلاً عن التدمير الممنهج للبنى التحتية والمطارات) وضعوا تحت خانة «أضرار جانبية». تعبير شهير في صناعة الأفلام الهوليوودية. فـ«المخلّص» يستطيع أن يُخطئ، لا بل أن يكذب. فهو حشد إلى جانب طائراته عشرات الفضائيات والصحف وحسابات «التلاعب» بالحقائق والأرقام على مواقع التواصل الاجتماعي.
المسألة ليست في أنّ الأميركي قاتل، فذلك ليس بجديد. هو كذلك منذ أن وطئت قدماه أراضي «الآخرين». عشرات الآلاف من الضحايا الأبرياء تناثرت أشلاؤهم في الحرب مع الفيليبين، مروراً بدريسدن الألمانية وهيروشيما وناغازاكي اليابانيتين، إلى فييتنام ويوغوسلافيا… اللائحة تطول والدم المسفوك على يدي «العم سام» لا أبا له.
يوم أمس أصدر «التحالف الدولي» بياناً أفاد فيه بأنّه قتل نحو 600 مدني من طريق الخطأ منذ بداية عملياته في آب عام 2014 حتى أيار 2017. لكن في المقابل، أحصت مؤسسة «إيروورز» airwars البريطانية مقتل 4354 مدنياً في الحد الأدنى.
لا يملك أهالي الموصل والأنبار والرقة والحسكة ودير الزور القدرة على تصوير دم أبنائهم وجيرانهم. منذ أيام، قُتل 11 شخصاً في قرية بير حمد في ريف الرقة الشرقي، وفي العشرة أيام الأخيرة سُجّل مقتل 81 مدنياً في ريفي الحسكة والدير (بينهم 50 في بلدة الصور، 12 في كشكش زيانات، 11 في تل الجاير).
في تشرين الثاني الماضي، عاينت «الأخبار» يوم الهروب الجماعي من قرية الهيشة في ريف الرقة الشمالي. كانت التغريبة ممنوعة من التصوير.
عشرات السيارات والشاحنات نقلت أكثر من ألف مدني من الخارجين إلى العراء، فيما لم يسعف العشرات سوى أقدامهم لتقلّهم نحو مصيرهم المجهول. كانت طائرات الموت تدكّ أطراف القرية، وقبل يومين حصدت عشرات الأرواح، نحو نصفهم من النساء والأطفال. واشنطن تقتل نساءً وأطفالاً… جملة مستهجنة في الإعلام السائد.
القرية الواقعة على بعد 40 كيلومتراً شمال مدينة الرقة و12 كلم شرق مدينة عين عيسى (تتخذها قوات التحالف مقرّاً رئيسياً) كانت «ضرورية» لشق طريق المشاة في عمق المحافظة. المحظورات مباحة دوماً أمام هدير «الفانتوم».
المأساة الحقيقية تكمن في قدرة «الجبار» على التهرّب من القصاص… حتى المعنوي منه. آلة قتل تستطيع أن تكوّن رأياً عاماً حول ضحايا في أي نقطة على هذه الأرض. والأنكى أنّها قادرة على تجهيز مسرح كامل تختار فيه القاتل والضحية وطريقة العقاب.
قبل أسابيع قال رئيس لجنة التحقيق لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، باولو بينيرو، إنّ «الضربات المكثفة التي يشنها التحالف في الرقة تسبب خسائر مذهلة في أرواح المدنيين». كلام مذهل جديد يُسجّل للأمم المتحدة. المنظمة الأممية ذاتها عبّرت عن «إدانتها الشديدة» المسبقة لأي هجوم كيميائي محتمل ينفّذه الجيش السوري. يكفي تصريح «يقرأ في المستقبل» لمندوبة الولايات المتحدة في مجلس الأمن لكي تنوح المنظمات والحكومات والشاشات. فوق سقف المدمرات الأميركية والغربية والعربية التابعة لا خطوط حمر. التوازنات الدولية هي التي ترسم هذه الخطوط. شهوراً فُرملت معركة تحرير حلب لأجل «خطّ» رُسم أميركياً بهدف «حماية» المدنيين المحاصرين في الجهة الشرقية الممنوعين من الخروج.
بالعودة إلى تقرير منظمة «إيروورز» غير الحكومية، فإن الولايات المتحدة «وإن كانت تقر بسقوط قتلى من المدنيين من طريق الخطأ» إلا أنها تعلن أرقاماً غير حقيقية أو «تقديرات مخفوضة جداً».
المنظمة أفادت في تقريرها قبل ثلاثة أشهر بأن العدد المُعلن من هو أقل ثماني مرات من العدد الحقيقي لعدد القتلى. ولفتت إلى أنّ حصيلة القتلى تزايدت بصورة كبيرة جداً حتى نهاية الربع الأول من العام الجاري. وفي تحقيق آخر للمنظمة (التي ترصد وتراقب الخسائر المدنية للغارات الجوية الدولية في العراق وسوريا وليبيا) بالتعاون مع مجلة «فورين بوليسي» فإنّ شركاء واشنطن مسؤولون عن مقتل ما لا يقلّ عن ثمانين مدنياً في الغارات في العراق وسوريا. وبناءً على معلومات من مسؤولين أميركيين، فإنّ «دول التحالف» (ما عدا أميركا) شنّت أكثر من أربعة آلاف غارة مشتركة، نفذت غالبيتها بريطانيا وفرنسا (أكثر من النصف)، وأوستراليا وبلجيكا وهولندا.
وأضافت أن هذه الوفيات المؤكدة تكشّفت في تقرير عن الخسائر في صفوف المدنيين الصادر في الثلاثين من نيسان الماضي، الذي أشار إلى ثمانين حالة وفاة جديدة أشير إليها فقط على أنها «تُعزى إلى ضربات التحالف لدحر تنظيم الدولة في العراق وسوريا من آب 2014 حتى الآن ولم تعلن من قبل».
وقد أكد ثلاثة مسؤولين أميركيين أن الحالات الثمانين وقعت في حوادث توصّل المحققون إلى أنها كانت مسؤولية الدول المشاركة في «التحالف»، لكن «الحلفاء ضغطوا على الولايات المتحدة لمنع نشر تفاصيل الضربات المعنية». وانتهى التقرير إلى أن الولايات المتحدة بهذه الطريقة تساعد الحلفاء في إخفاء الضحايا المدنيين في العراق وسوريا، وبذلك تؤدي وزارة الدفاع الأميركية «خدمة لشركائها على حساب شفافيتها».
أكثر من 23000 غارة نفّذها «التحالف الدولي» (نحو 13000 في العراق و10000 في سوريا)، ألقيَ خلالها 85000 صاروخ وقنبلة في خلال أكثر من 1000 يوم من الحملة المتواصلة. تريدها واشنطن صورة حرب نظيفة. ضربات عالية الدقة تقتل «الأشرار» وتميّز الإرهابي عن المدني تحت سقف واحد. هذا هو «الفيلم»… استمتعوا بمشاهدته.
نقلا عن جريدة الاخبار اللبنانية