الجديد برس
لم يكن حصار العدوان السعودي الإماراتي لليمن إلا استكمالا لتخريب البلاد بشكل منظم، إذا ما أضفناه إلى السياسات والممارسات المتبعة من حلفاء العدوان في الداخل في إطار عملهم على بقاء اليمن في حظيرة الهيمنة السعودية، التي طالما صادرت كل شروط ومحاولات شعب اليمن للاستقلال الحقيقي وتجاوز واقعه المحتجَز تطوره بصيانة آل سعود لعوامل الضعف والتخلف، ولتحقيق ذلك حافظت مملكة آل سعود على أذناب لها في الداخل اليمني بعضهم يرتبطون بعلاقات عضوية مع حكم آل سعود وبعضهم بعلاقات تاريخية وآخرين تم تجنيدهم حديثا للمشروع السعودي، فلم يظهر وباء الكوليرا ومعه بوادر المجاعة في اليمن بشكل مفاجيء، بل جائا كتتويج لما بدأه الحكم السابق فاقد الشرعية وما ارتكبه في إطار الصراع على السلطة والتدخل السعودي المباشر بثقله الذي لم يحقق للمملكة النصر حتى الآن.
برغم سوء الأوضاع بشكل عام في الوطن اليمني قبل سقوط عبد ربه هادي منصور كانت لليمن “دولة” فاعلة على عكس الشائع في الذهن الشعبي والثقافي العربي، دولة تتمتع بمؤسسات مستقرة منذ الوحدة بين الشمال والجنوب وهيكل إداري قادر على تسيير حياة الناس بحد مناسب من الكفاءة والكفاية، على الأقل وفقا لموارد البلد وواقعها الاقتصادي والسياسي، لكن بظهور سلطتين في البلاد آثر الطرف التابع لآل سعود تجاوُز مبدأ تحييد “المؤسسات الحيوية” لجهاز الدولة الذي تم التوافق عليه ضمنياً بين الطرفين منذ بداية الصراع على السلطة، تحقيقالمصالح الطرف السعودي في إسقاط اليمن وإتاحة انهياره وليس تحريره بحال، فالبديهي أن تحرير أي شعب لا يكون بإسقاط ما يحفظ حياته اليومية ومتطلباتها الأساسية، من هنا نفحص أحد الخطوات التي اتخذتها حكومة هادي بخصوص البنك المركزي اليمني في سبتمبر 2016، ونقله من العاصمة صنعاء إلى عدن المحتلة إماراتيا وتغيير محمد عوض بن همام محافظ البنك التكنوقراطي المستقل الخارج عن الاستقطاب السياسي، وما شمل ذلك وتبعه من انهيار اقتصادي وتداعيات كارثية على حياة اليمنيين.
بسيطرة قوات هادي على محافظة وميناءعدن، التي تم تسليمها للإحتلال الإماراتي، في يوليو 2015 ومع إعلان هادي المسبق في مارس من ذات العام اعتباره لعدن “عاصمة مؤقتة”، بات واضحاً أن ثمة نيّة لنقل مقر البنك المركزي اليمني من صنعاء مقر الحكم الجديد إلى عدن، وبموازاة ذلك بدأت حكومة هادي التشكيك بمصداقية البنك ومحافظُه ووجّهت إلى صندوق النقد الدولي طلباً بتجميد حساباته في الخارج وإلغاء توقيع المحافظ ونائبه، مع اتهامات مرسلة بأنه يتصرف بشكل غير مسؤول في احتياطي البلاد من النقد الأجنبي، وبناءً عليه غادر محمد عوض بن همام محافظ البنك المركزي اليمني صنعاء إلى مملكة آل سعود لتحذيرهم من مغبة خطوة نقل البنك، وبالفعل – كما أوردت وكالة رويترز وقتها – تلقى الرجل تأكيدا من مسؤولي المملكة أن استقلالية البنك محل احترام وسيتم توخّي تحييدها عن الصراع السياسي، لكن في يونيو من عام 2016 حين تم استئناف تصدير النفط من اليمن بشكل بسيط، بعد أن قامت قوات موالية لهادي وبدعم من الإمارات بالاستيلاء على ميناء المكلا من قبضة تنظيم القاعدة في جزيرة العرب، وبدلا من تحويل إيرادات هذا البيع إلى حساب الحكومة في البنك المركزي اليمني لتقوم بدورها في رفع احتياطي البنك من العملة الأجنبية، حوّلت حكومة هادي الإيرادات إلى حساب كانت قد فتحته حديثا في البنك الأهلي السعودي.
الحقيقة أن بن همام محافظ البنك المركزي اليمني طالما كان موثوقاً به من كافة الأطراف، سواء جبهتيّ النزاع اليمني أو الحكومات المجاورة والعالمية أو الأسواق المالية العالمية أو البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، بإحترافيته الخارجة عن الاستقطاب السياسي وسنوات خبرته الطويلة إذ عمل في البنك المركزي منذ إعلان الوحدة اليمنية في العام 1990، وقبلها في مصرف اليمن في اليمن الجنوبي قبل الوحدة، حتى أن رئيس بعثة صندوق النقد الدولي لليمن ألبرت ايجر صرّح في يونيو 2016 بأن “البنك المركزي جاد بالفعل بالنسبة لمسألة حياده في موقف سياسي وأمني صعب، وكان ناجحا بشكل كبير في الحفاظ على الاستقرار المالي خلال الصراع”، وفي سياق رده على ادعائات حكومة هادي قال بن همام أن البنك أصدر تقارير دورية لإعلام الحكومة بحالة البنك وعملياته وأرصدته، وأن جميع عمليات البنك المركزي يمكن تتبعها وتدقيقها من خلال السجلات المحفوظة لدى المؤسسات المالية الدولية، مضيفاً أنه لا توجد أية مخالفات في حسابات البنك وطلب من حكومة هادي رسمياً تعيين شركة تدقيق مالية دولية مستقلة للتحقق من ذلك.
لم ترد حكومة هادي على مخاطبة بن همام حتى أغسطس من عام 2016 حينما أعلنت إيقاف تعاونها مع البنك المركزي وأنها ستعمل على تحويل إيرادات الجمارك وتصدير النفط بعيدا عن حساباتها لدى البنك المركزي، وفي 18 سبتمبر 2016 أصدر هادي قراراً يقضي بتعيين محافظ جديد للبنك المركزي ونقل المقر الرئيسي للبنك من صنعاء إلى عدن مدّعياً أن قرار النقل كان ضروريا للحفاظ على “استقلالية البنك”، حينها صرح أحد الدبلوماسيين الغربيين في حديث لرويترز بأن “المقلق في الأمر هو أن الحكومة اليمنية والتحالف بقيادة السعودية من خلفها يحاولون استخدام الاقتصاد اليمني كتكتيك عسكري”، بل وفي خطابه أمام اللجنة العمومية للأمم المتحدة في 23 سبتمبر 2016 قال هادي أن “نقل البنك المركزي سيصعد من الضغط على جماعة الحوثي المتمردة في العاصمة” وأضاف بوضوح أن هذا القرار سيزيد المصاعب على ملايين اليمنيين وسينتج عنه العجز عن تسديد رواتب العاملين بالدولة، كما عبّر أكثر من مسؤول في حكومته وراء الأبوب المغلقة عن رغبتهم في شن حرب اقتصادية على المحافظات التي تقع تحت سيطرة الحكم الجديد في اليمن.
كانت استجابة المؤسسات المالية الدولية، بتواطؤ سعودي، لطلب هادي بمنع وصول البنك إلى احتياطاته النقدية في الخارج بداية حقيقية لانزلاق الشعب اليمني نحو عمق الأزمة الحياتية له، وكذلك بدأت احتمالية المجاعة في البلاد والتي ترتفع يوماً بعد يوم بمشاركة المؤسسات العالمية في العدوان على شعب اليمن وقتله.
نقلا عن البديل المصرية