الإسلام النفطي وتكفير المتخيل

الجديد برس : رأي 

محمد ناجي أحمد – كاتب صحفي 

كانت حرب 1930-1934م ضد اليمن مطية بني سعود للوصول إلى عقد اتفاقية الغلبة (اتفاقية الطائف)، فمنذ تلك الحرب والكيان السعودي يضيق الخناق على رقابنا بما يشبه حكاية السندباد مع (شيخ البحر)، ففي رحلات السندباد السبع يحكي لنا في رحلته الخامسة قصته مع (شيخ البحر)، فبعد أن تحطمت مركب السندباد، ألقت به الأمواج إلى جزيرة جميلة، ملأى بباسق الشجر وعاطر الزهر وطيب الثمر، صادف شيخاً مليحاً، جالساً عند ساقية عين ماء جارية، مؤتزراً بإزار من أوراق الشجر، فدنا منه السندباد وسلم عليه. حرّك الشيخ رأسه، وأشار بيده أن احملني على رقبتك، وانتقل إلى مكان، فحمله السندباد على كتفيه، وأحاط رجليه برقبته، وانتقل إلى المكان الذي أشار إليه، وقال له انزل على مهلك، فلم ينزل، وأحكم رجليه على رقبة السندباد، وظل يخنقه ويضربه بساقيه اللتين تحولتا إلى مثل أرجل الجاموس في السواد والخشونة. وضيق وثاقه على السندباد، لا يفارق رقبته ليلاً أو نهاراً. ومضى السندباد المسكين يحمله كارهاً، لا يستطيع فكاكاً من (شيخ البحر) [الشيطان]. هذه الحكاية التي ننقلها عن كتاب (هوامش على دفتر التنوير) لجابر عصفور، هي حكايتنا مع الكيان السعودي، فمنذ خادعنا بدعم من البريطانيين وهو لا ينفك حتى اليوم يضيِّق علينا الخناق قضماً لجغرافيتنا، وتحكماً بسياستنا واقتصادنا، وسيطرة على ثقافتنا وعقولنا.
لقد مثلت مشيخات الخليج، أو ما أسميه (إمارات العائلات المتحدة) تجريفاً للإسلام، وأنتجت نسخة مميتة للعقل هو (الإسلام النفطي) الذي مارس وصاية وقمعاً لكل فعل تنويري في السياسة والاقتصاد والثقافة.
لنأخذ على سبيل المثال الشأن الأدبي وما مارسه هذا (الإسلام النفطي) من رقابة على المتخيل، حين عمل على (تكفير المتخيل) الروائي والقصصي والشعري في اليمن. فهذه قصيدة (الاختيار) لعبد العزيز المقالح، التي انطلق التكفير لها، وتجريم الشاعر والقصيدة في المجلات والصحف والكاسيتات في السعودية واليمن. ووصفوه بـ(أحد سدنة الحداثة المشهورين) و(شاعر الرموز المرفوضة) و(ملحد خبيث) و(صاحب الفكر اليساري… المغرم بماو الشيوعي الصيني… صاحب القصيدة الشهيرة).. كل ذلك منشور في ما ينقله لنا (جابر عصفور) في كتابه آنف الذكر، في الكاسيتات التي تم توزيعها في السعودية واليمن، وفي مجلة (الدعوة) وكتاب (الحداثة في ميزان الإسلام) لعائض القرني، الذي أدين من محكمة سعودية بعد ذلك بالسطو على ثلث كتابه (يا قلب لا تحزن)! وصحيفة (الإيمان) التي يشرف عليها عبد المجيد الزنداني… إلخ.
والسبب المحرك لهذه الحملة هو ما حملته هذه القصيدة من دلالات المواجهة واختيار الحفر في الجدار: (إما فتحنا ثغرة للنور أو متنا على ظهر الجدار).
هي قصيدة الموقف المقاوم والرافض والمعري للإسلام النفطي، من خلال رؤية شعرية تقريرية وتصويرية لما يقوم به (إسلام البترودولار) من تشويه لقيم الإسلام التسامحي والتعددي والعقلاني، بين مفهوم (الله) كتكثيف دلالي للحق والجمال والخير، وبين مفهوم الإسلام النفطي الذي يقدمه على أنه:
(صار رماداً،
صمتاً،
رعباً في كف الجلادين،
أرضاً تتورم بالبترول،
حقلاً ينبت سبحات وعمائم)
هي قصيدة اختارت المواجهة والموقف الواضح ضد:
(الرب القادم من هوليود
في أشرطة التسجيل
في رزم الدولارات
رب القهر الطبقي)
لهذا يختار الشاعر:
(أختار الله… أختار الحب… الشعر… أختار غداً).
هو موقف حاسم من (الإسلام النفطي)، والانحياز لإسلام الفقراء والانتماء للأرض الخضراء بالمطر والحب والأغنية:
(كان الله -قديماً-حباً،
كان سحابة،
كان نهاراً في الليل،
وأغنية تتمدد فوق جبال الحزن.
كان سماء تغسل بالأمطار الخضراء تجاعيد الأرض).
وهو ما يجعل الشاعر يتساءل باستنكار رفضي:
(أين ارتحلت سفن الله… الأغنية الثورة؟)
هو ذات (الإسلام النفطي) الذي شن حملة شعواء ضد رواية (صنعاء مدينة مفتوحة)، أواخر التسعينيات، حين قامت صحيفة (الثقافية) بإعادة نشر الرواية، فخطب عبد المجيد الزنداني ومستنسخاته محرضين الناس في الجوامع ضدها وضد مؤلفها، وصحيفة (الثقافية) ورئيس تحريرها. وظهر محمد عبد الله اليدومي مستنكراً ومُجَرِّماً إعادة نشر الرواية، ودافعاً للاحتساب ضد الصحيفة وناشرها. ولم تنتهِ القضية إلاّ بعد أن رضخ رئيس تحرير (الثقافية)، ونشر في الصحيفة بـ(أن ناقل الكفر ليس بكافر)، وهذا طبيعي بالنسبة للوعي المعتقدي الذي نشأ فيه سمير رشاد اليوسفي، فهو من حيث النشأة والدراسة ربيب المملكة السعودية ومنهجها الوهابي، ومحاضرات الزنداني التي كان يلقيها عليهم أثناء دراسته هناك، وهو عضو الدائرة الإعلامية لفرع التجمع اليمني للإصلاح بتعز حتى منتصف التسعينيات. لهذا لا غرابة أن تنتهي القضية بإدانة وتجريم الرواية والمؤلف باصطفاف المؤتلف ضد المختلف.
إن (تكفير المتخيل) ـ وهو عنوان مقالتي التي نشرتها حينها في (الثقافية) -هدفه استمرار مصادرة العقل والتفكير والفكر، ليظل دوماً في أسر (الاتباع) والخضوع للأرض والإنسان في اليمن تجاه الكيان السعودي.