الجديد برس : صحافة
محمد نزال
كاد حزب الله أن يقتل أبو مالك التلّي. رصده أكثر مِن مرّة. يرصده الآن أيضاً ويعرف مخبأه. في جرود عرسال معارك ضارية. قوّات «التعبئة» بطلة تلك المعارك. حالة وجدانيّة بين المقاومة والجيش اللبناني: «إنّهم لحمنا ودمنا». إسرائيل تُراقب. بعض الإعلاميين في دهشة إذ شاهدوا الميدان. المُشمش والكرز على الأرض، لا يحلّ أكله إلا بإذن أصحابه، والتراب على ذلك شهيد.
هنا «عرش الربّ». هكذا كان اسمها، يُقال، في لسان الآراميين. إن جاء الاسم مِن العُلو، فهي عالية جدّاً، وإن أتى مِن صلابة هياكل مُفترضة، فصخرها أصلب مِن الصخر، وإن استُحضِر مِن قسوتها، باستلهام وعثاء السفر إلى الربّ، فهي كذلك وأكثر. كثيرة الشوك… وقد جاءها اليوم سالكو «درب ذات الشوكة».هنا عرسال، لا، نراها الآن مِن علٍ. هنا جرود عرسال، وبتحديد جغرافي أدقّ: هنا جرود عرسال المُحرّرة. أن تمدح حزب الله، الآن، لما أنجزه ويُنجزه هناك وأبعد، فهذه موجة شائعة أخيراً. لا حاجة إلى ذلك. الوصف يكفي. عيون الصحافيين، الآتين مِن غير «بيئة» الحزب خاصّة، كان إفصاحها أمس كافياً: يا الله! ما هذا! أحدهم عندما رأى آليات الحزب، مدافعه وصواريخه، كيفية عيش أفراده هناك وأسلوب تنقّلهم وتوزّعهم، ألفتهم مع التراب والصخر والهواء، لم يتمالك نفسه قائلاً: «يقولون حزب الله دولة؟ لا، إنّهم شيء آخر تماماً. مَن يسمع ليس كمن يرى». يضحك أحد الحزبيين، عند إحدى نقاط الحرس، مُعلّقاً: «إنّه لم يرَ شيئاً بعد». كان هذا الشاب يُمازح الضيوف المدنيين الآتين مِن بعيد. ذهب قليلاً وعاد بيده «واجب الضيافة». علب عصير صغيرة. عصير «مانغو» تحديداً.
نبتعد عن نقطة الحرس. تُفصح الوعورة عن نفسها. الجبال العالية الخشنة. أرض مخيفة نهاراً، شمسها حارقة، هواؤها يلسع الوجوه، يُنشّفها، جرداء واسعة مهيبة، فكيف تكون ليلاً! في الشتاء حكاية أخرى. ليست صالحة للسكن البشري، لكن، مع ذلك، سكنها هؤلاء.لسببٍ يقدرون على فعل ذلك. هنا هُزِم، تقريباً، مقاتلون عقائديّون أشدّاء، أشدّاء جدّاً، ولا غضاضة أن يُسجّل ذلك لهم. مقاتلو «القاعدة» ليسوا هواة. بأسهم شديد. مقاتلون خبروا تلك الأرض، على مدى سنوات، احتلّوها، وأسسوا فيها ما ظنّوا أنّها «شخاريب» ستمنعهم مِن ذاك الحزب. أوهام على أوهام. ما بالُ هذا الحزب لا يُهزم! يُمكن الآن فهم بعض كارهيه أكثر. إنّه لم يدخل حرباً وهُزِم. هذا يكفي لفيض مرارة بعض الأنفس.لإسرائيل أن تخشى حزب الله، الآن، أكثر مِن أيّ وقت مضى. لقد خاض هذه المواجهة الأخيرة بأعداد كبيرة مِن قوّات «التعبئة». هؤلاء، ولا بدّ هنا مِن الشرح، لا يتقاضون أموالاً لقاء عملهم في الحزب. إنّهم ليسوا متفرّغين، ولا متعاقدين، بل متطوّعون وفق منظومة خاصة بالحزب. مِنهم النجّار ومِنهم سائق الأجرة ومِنهم الموظّف ومِنهم مَن يعمل في أرضه ومنهم الطالب، وهكذا. بعض الذين شاركوا في معارك الأيّام الأولى، في جرود عرسال، وحرّروا أكثر مِن ثلثي المساحة التي يُسيطر عليها تنظيم «القاعدة» (النصرة وما شاكل) عادوا إلى منازلهم. عادوا إلى البقاع وبيروت والجنوب وحيث سكنوا. مِن هؤلاء «التعبئة» كان شهداء أيضاً. إنّهم ليسوا «قوّات النخبة». الإسرائيلي يعرف هذا جيّداً، حتماً، والحزب حريص على أن يُعلِمه ذلك. لا تقاس طبيعة جنوب لبنان، وجنوباً أكثر نحو الجليل وأبعد، بطبيعة جرود عرسال. مَن وطأ الأرضين يعرف أنّ الجنوب وجنوبه، بالنسبة إلى المقاتل، الذي خبر أوعر ما يُمكن تخيّله، ستكون بمثابة إجازة للراحة. القياس نسبيّ هنا.في جرود عرسال، أمس، كشف لـ«الأخبار» مسؤول عسكري مِن الحزب، أنّ أبو مالك التلّي «كاد أن يُقتَل أكثر مِن مرّة في معارك الأيّام الأخيرة. حدّدنا مكانه بدقّة، واستهدفناه، ولكنّه كان ينجو، والآن نعرف أين هو جغرافيّاً، نعرف أين هو تحديداً، وقد أصبح محاصراً في منطقة ضيّقة». كيف ستكون نهايته؟ إجابة حاسمة: «إمّا أن يفرّ باتجاه الأراضي التي يحتلّها داعش، لنصل إليه وإليهم لاحقاً، وإمّا أن يستسلم، وإمّا أن يُقتل». يتحدّث المسؤول عن حالة وجدانيّة متفاقمة بين المقاومة والجيش اللبناني أخيراً: «يخافون علينا ونخاف عليهم. إنّهم أهلنا ولحمنا ودمنا، انظر هناك، في هذا الاتجاه كان المسلّحون يعتدون على الجيش، الآن بعد تحرير تلك التلّة أصبح الجيش في مأمن. إنّنا نتكامل». لحظة هذه الكلمات كانت الأرض تهتز بفعل مدافع الميدان الثقيلة. هذه المدافع المباشرة التي تُصبح كقنّاصة كبيرة. أصوات غارات الطائرات الحربيّة السوريّة، مِن مناطق الحدود، تزيد اللحظة رهبة. تزداد هذه أكثر، إنّما بعنوان آخر، لحظة رؤية مقاتلي حزب الله وهم يؤدّون الصلاة. أحدهم حافي القدمين، فوق البحص، يركع ويسجد ويقنت. قطرات ماء الوضوء كانت تتساقط مِن كفّيه. مهلاً، الطرف الآخر، في هذه المعركة، يُصلّي أيضاً. صحيح. إنّها معركة بين مُصلّين، في الشكل، في الظاهر، وتاريخنا مليء بهذه الجدليّة منذ «خوارج» النهروان ومَن تلاهم. هذه حكاية أخرى، وجع آخر، يطول سرده. هؤلاء المقاتلون المصلّون الأشدّاء، العقائديّون، على شكل «داعش» أو «نصرة» أو غيرهما، ماذا لو كانوا في خندق واحد مع حزب الله؟ هذا الحلم الأزلي الذي داعب آمال الكثير مِن الإسلاميين على مدى العقود الماضية. لو كان صُبّ كل ذاك «الانتحار» في وجه إسرائيل، مثلاً، فهل كانت ستظلّ إسرائيل هادئة المُدن؟ مفارقة المعسكرين، بين هذه الجبهة وتلك، تحضر في رأسك وأنت تُراقب المشهد، هناك، حيث رعود القذائف والصواريخ تملأ أذنيك.
نبتعد عن نقطة الحرس. تُفصح الوعورة عن نفسها. الجبال العالية الخشنة. أرض مخيفة نهاراً، شمسها حارقة، هواؤها يلسع الوجوه، يُنشّفها، جرداء واسعة مهيبة، فكيف تكون ليلاً! في الشتاء حكاية أخرى. ليست صالحة للسكن البشري، لكن، مع ذلك، سكنها هؤلاء.لسببٍ يقدرون على فعل ذلك. هنا هُزِم، تقريباً، مقاتلون عقائديّون أشدّاء، أشدّاء جدّاً، ولا غضاضة أن يُسجّل ذلك لهم. مقاتلو «القاعدة» ليسوا هواة. بأسهم شديد. مقاتلون خبروا تلك الأرض، على مدى سنوات، احتلّوها، وأسسوا فيها ما ظنّوا أنّها «شخاريب» ستمنعهم مِن ذاك الحزب. أوهام على أوهام. ما بالُ هذا الحزب لا يُهزم! يُمكن الآن فهم بعض كارهيه أكثر. إنّه لم يدخل حرباً وهُزِم. هذا يكفي لفيض مرارة بعض الأنفس.لإسرائيل أن تخشى حزب الله، الآن، أكثر مِن أيّ وقت مضى. لقد خاض هذه المواجهة الأخيرة بأعداد كبيرة مِن قوّات «التعبئة». هؤلاء، ولا بدّ هنا مِن الشرح، لا يتقاضون أموالاً لقاء عملهم في الحزب. إنّهم ليسوا متفرّغين، ولا متعاقدين، بل متطوّعون وفق منظومة خاصة بالحزب. مِنهم النجّار ومِنهم سائق الأجرة ومِنهم الموظّف ومِنهم مَن يعمل في أرضه ومنهم الطالب، وهكذا. بعض الذين شاركوا في معارك الأيّام الأولى، في جرود عرسال، وحرّروا أكثر مِن ثلثي المساحة التي يُسيطر عليها تنظيم «القاعدة» (النصرة وما شاكل) عادوا إلى منازلهم. عادوا إلى البقاع وبيروت والجنوب وحيث سكنوا. مِن هؤلاء «التعبئة» كان شهداء أيضاً. إنّهم ليسوا «قوّات النخبة». الإسرائيلي يعرف هذا جيّداً، حتماً، والحزب حريص على أن يُعلِمه ذلك. لا تقاس طبيعة جنوب لبنان، وجنوباً أكثر نحو الجليل وأبعد، بطبيعة جرود عرسال. مَن وطأ الأرضين يعرف أنّ الجنوب وجنوبه، بالنسبة إلى المقاتل، الذي خبر أوعر ما يُمكن تخيّله، ستكون بمثابة إجازة للراحة. القياس نسبيّ هنا.في جرود عرسال، أمس، كشف لـ«الأخبار» مسؤول عسكري مِن الحزب، أنّ أبو مالك التلّي «كاد أن يُقتَل أكثر مِن مرّة في معارك الأيّام الأخيرة. حدّدنا مكانه بدقّة، واستهدفناه، ولكنّه كان ينجو، والآن نعرف أين هو جغرافيّاً، نعرف أين هو تحديداً، وقد أصبح محاصراً في منطقة ضيّقة». كيف ستكون نهايته؟ إجابة حاسمة: «إمّا أن يفرّ باتجاه الأراضي التي يحتلّها داعش، لنصل إليه وإليهم لاحقاً، وإمّا أن يستسلم، وإمّا أن يُقتل». يتحدّث المسؤول عن حالة وجدانيّة متفاقمة بين المقاومة والجيش اللبناني أخيراً: «يخافون علينا ونخاف عليهم. إنّهم أهلنا ولحمنا ودمنا، انظر هناك، في هذا الاتجاه كان المسلّحون يعتدون على الجيش، الآن بعد تحرير تلك التلّة أصبح الجيش في مأمن. إنّنا نتكامل». لحظة هذه الكلمات كانت الأرض تهتز بفعل مدافع الميدان الثقيلة. هذه المدافع المباشرة التي تُصبح كقنّاصة كبيرة. أصوات غارات الطائرات الحربيّة السوريّة، مِن مناطق الحدود، تزيد اللحظة رهبة. تزداد هذه أكثر، إنّما بعنوان آخر، لحظة رؤية مقاتلي حزب الله وهم يؤدّون الصلاة. أحدهم حافي القدمين، فوق البحص، يركع ويسجد ويقنت. قطرات ماء الوضوء كانت تتساقط مِن كفّيه. مهلاً، الطرف الآخر، في هذه المعركة، يُصلّي أيضاً. صحيح. إنّها معركة بين مُصلّين، في الشكل، في الظاهر، وتاريخنا مليء بهذه الجدليّة منذ «خوارج» النهروان ومَن تلاهم. هذه حكاية أخرى، وجع آخر، يطول سرده. هؤلاء المقاتلون المصلّون الأشدّاء، العقائديّون، على شكل «داعش» أو «نصرة» أو غيرهما، ماذا لو كانوا في خندق واحد مع حزب الله؟ هذا الحلم الأزلي الذي داعب آمال الكثير مِن الإسلاميين على مدى العقود الماضية. لو كان صُبّ كل ذاك «الانتحار» في وجه إسرائيل، مثلاً، فهل كانت ستظلّ إسرائيل هادئة المُدن؟ مفارقة المعسكرين، بين هذه الجبهة وتلك، تحضر في رأسك وأنت تُراقب المشهد، هناك، حيث رعود القذائف والصواريخ تملأ أذنيك.
على الطريق إلى جرود عرسال، الطريق الرهيبة في صعوبة السير فوقها، ولو بسيارة رباعيّة الدفع، تلمح بعض بساتين الأشجار. بعضها منتصبة، تُعاند، وأخرى ذابلة. يعلوها الغبار. أصبح الكرز الأسود أبيض بفعل تراكم الغبار. المُشمش الناضح أبيض أيضاً. ثمّة مساحات في تلك الجرود يُمكن وصفها بأرض المُشمش والكرز. مِن هناك تأتي أفخر أنواع تلك الفاكهة. بائعو الخُضَر يعرفون ذلك. إنّها بساتين لأهل عرسال الذين، بعد دخول المسلّحين إلى المنطقة واحتلالها، ما عادوا يرعونها. ما عادوا يقطفون ثمارها. على مدى سنوات كانت تلك مناطق موت. أحد مسؤولي حزب الله، في جولة أمس، يطلب مِن الصحافيين عدم مسّ تلك الأشجار. هذا قرار لا مزاح فيه، حتّى وإن كان المُشمش تكوّم أرضاً تحت أغصانه، أيّاً يكن. هؤلاء المقاتلون، في هذه المنطقة المقطوعة، حيث تجهد السباع للعيش، لا يأكلون مِن تلك الثمار. هذا «محرّم» عليهم. هذه أخلاقهم. لا بدّ مِن موافقة أصحابها. إنّهم حرصاء على ألّا يدخلوا النار بشقّ مشمشة. رؤية هؤلاء عن قرب تُغنيك عن عبء تحليل الكثير مِن الدعاية ضدّهم. لا أحد معصوم هنا، قطعاً، إنّهم بشر عاديّون جدّاً، إنّما لهم في الأخلاق فلسفة. إنّهم لا يَذبحون. هذه دعاية مُستهلكة؟ لا، ليس كذلك، إنّها ليست تفصيلاً. هذه وحدها، لو كانت وحدها، كافية لأن تُصبح نشيداً يُردّد صبح مساء. هذا ليس مجرّد فعل، إنّها إشارة قويّة، مكثّفة، تُشير إلى الكثير خلفها. تختلف معهم، تعارضهم، إنّما لن تجدهم يسلخون جلدك لذلك. هل سُجّل على أحدهم ذلك؟ في شرق الدم، مستنقعات الدم، هؤلاء نعمة. لا يسيل لعابهم فوق عنقك. قل فيهم ما شئت، ولكن يُمكن الجزم، براحة ضمير، بأنّهم أفضل الموجود. خيرة هذا الشرق. البقيّة الباقية. ولهؤلاء قيادة، قد خبرناها مراراً، ستدعوهم غداً، ودائماً، إلى التواضع لأهلهم… ولكل مَن يستحق التواضع.