الجديد برس : رأي
صلاح الدكاك
واثقاً مطمئناً ساكن الروع وهادئ النبرة، تجلَّى سيد الثورة السيد عبدالملك الحوثي، آخذاً بنفوس شعبه اليمني الصامد الصابر الشريف، من خناق جزئيات المشهد المحلي ويومياته المثخنة بالآلام والخشية والقلق من تصدع الجبهة الوطنية، إلى شمولية المشهد الإقليمي والدولي المستعر بصراع يحوز اليمنيون اليوم شرف السبق والإسهام الفاعل خلاله، في صدارة الشعوب الحرة المناهضة قولاً وعملاً لترسانة مشروع التعبيد الأمريكي الصهيوني، من (بيونغ يانغ) إلى (دمشق فبغداد فبيروت)!
يجدر بنا ـ إذن ـ ألا نقع أسرى لحدود خندق الدفاع المحلي وفرائس عالقة ضمن دائرة (حصار الأحزاب)، تضرع بيأس متعجلةً انقشاع الغمة عن نطاق وجودها الجغرافي المحدود، إذ إننا لسنا ـ حصراً ـ الشعب المبتلى بجائحة أزمات وأوبئة ومآسٍ وشحة أرزاق دوناً عن شعوب المنطقة الواقعة تحت نير الوصاية أو في مهب مشروع التطويع لنير الوصاية، لكننا بتنا اليوم أحد أبرز الشعوب والبلدان التي حطمت أغلال الاسترقاق الأمريكي الصهيوني، وألحقت بمشروع الهيمنة والتعبيد هزائم فادحة هيأت للعديد من الشعوب المناهضة له والمنكوبة به فرصاً مثلى للثورة عليه والانعتاق منه؛ ليس في سوريا والعراق ولبنان فحسب، بل وفي عقر دار وكيله الإقليمي الأكبر مملكة بني سعود ونظيرها الإمارات الموعودين بزلازل وهزات شعبية كبيرة في المدى القريب المنظور.
دون أن يحقن آلام شعبه بالمورفين، ويدير الظهر لها، يُشرِّع سيد الثورة أهداب اليمنيين وبصائرهم على الأفق الرحب لاشتباك معقد ومديد تبرعم آلامهم في مداءاته آمالاً وانتصارات لا يفطن إليها المنكفئون على ذواتهم وهمومهم الشخصية بأنانية ومحدودية نظر وقزامة استشراف لأبعاد الصراع ومسارحه المتعددة والفسيحة.
لقد أصابت سهام صمودنا الصلبة والنافذة العدو في مقتل وهو يتحامل متكتماً على كلومه وجراحاته المميتة، مظهراً عدم مبالاة ما استطاع؛ حتى يدفعنا لأن نفقد ثقتنا في نجاعة رمياتنا فنكسر أقواسنا وننيخ لمشيئته، قانطين من إمكانية تحقيق النصر وانتزاع حريتنا واستقلال بلدنا عن جدارة واستحقاق.
خطاب سيد الثورة، مساء الخميس الفائت، قلب طاولة حسابات دوائر العدوان رأساً على أخمص، من حيث شمولية تناولاته ومضامينه ورسائله بعيدة المدى، وتراتبية كل ذلك في سياق كثيف رجحت هذه الدوائر سلفاً أنه لن يكون أكثر من استغراق ومراوحة مشوشة في تفاصيل (أزمة الخلاف بين حليفي الانقلاب الحوثي وعفاش)، وتحينت موعد ظهور سيد الثورة لتقرر من طبيعة نبرته وارتباك ملامحه ـ حد توقعاتها ـ ساعة الصفر لوضع اليد على فريسة مقشرة ومكسورة الجناح اسمها (صنعاء الصمود والتحدي).
على النقيض من هرطقات دوائر العدوان المثيرة للشفقة، دلف سيد الثورة المشهد من بوابته الواسعة، معتمداً ـ بمنأى عن التكتيك وخديعة الحرب ـ مبدأ الهجوم، صاعداً بالشارع اليمني من نكوص الهواجس اليومية على خلفية الأزمة بين الحليفين، صوب ذروة الشعور بالاقتدار والمكنة وانفساح خيارات الصمود وإلحاق الهزيمة بالعدو وقسره على التسليم بحقنا المشروع في الحرية والاستقلال.
وبحنكة وحكمة حوَّل سيد الثورة تحدياً آخر ـ هو الأخطر قياساً بسالفيه ـ إلى فرصة، فارتدت عثرة الخلاف وثوباً بمزيد زخم، واستفرغت صواعق الكيد للجبهة الوطنية الداخلية شحناتها في سبطانة مقاتلي الجيش واللجان ناراً نزاعةً لشوى العدوان، واختلجت صدور شعبنا الحر بعنفوان ثقة واستبسال وجنوح للبذل والتضحية بعد سطوة أنواء الهواجس، وعوضاً عن أن تقع صنعاء تحت طائلة المؤامرة، باتت (أبوظبي وتل أبيب وخارطة المملكة برمتها) تحت طائلة براكين وشهب القوة الصاروخية اليمنية، وبات جلياً وصادماً لتمنيات العدوان أن دون (الحديدة) مصارع مدن النفط المجدفة غدواً ورواحاً قيد جرة زناد من بحريتنا، وولوج العالم المنافق بحر الظلمات، وأزوف عصر البترودولار الزهيد!
وفي لعبة عض الأصابع بيننا وبين قوى العدوان، جديرٌ بأكف اليمنيين الشرفاء التي نحتت من صخر الواقع الشحيح الجلمد قناصات (الأشتر وسرمد وشقائقها)، بأن تكسب الرهان في مقابل أكف شيوخ النفط النواعم المنقوعة في بحيرة (كريستيان ديور وماكس فاكتور وسيلان مواخير البغايا)، ومثلها أكف القوادين والمرتزقة وإخوان جهاد النكاح الناشبة في أهرامات الروث والكبسة وأبوال النياق المعبدة.
جديرٌ بأصابع شعب الفلاحين الطاهرة المبرعمة من نواة الأرض كالذرى، أن تكسب الرهان في مقابل أصابع لفيف حثالات الحياة المخملية المسروقة من عرق الفلاحين وأقواتهم وريوع تأثيث خدور طوال العمر بلحم قاصرات بيوت الصفيح ومحاوي البؤس من (السيسبان) إلى (الدراز والشرقية والكندارة وخميس مشيط وحارة اليمن)!
ينبغي أن يكون قد تأكد للعالم المنافق ـ بعد سنوات الصمود الثلاث ـ أن شعب الـ21 من أيلول، لن يهرق الدم الزكي على مذبح المناشدات الإنسانية، وإنما سيهرق المزيد منه على مذبح الدفاع والهجوم والتنكيل بالعدو في هيجاء التصعيد الدامية، حتى يأذن الله بالنصر وينجز وعده لعباده الماضين في مقارعة أئمة الاستكبار امتثالاً لأوامره وذوداً عن إنسانيتهم المهددة بالدهس!
(قدراتنا الصاروخية اليوم تجعل من الإمارات بلداً غير آمن للشركات العاملة فيه.. بحريتنا باتت تمتلك من إمكانات الردع ما يفتقر إليه كثير من دول المنطقة.. مسار تطوير دفاعاتنا الجوية في تقدم مستمر.. نصنع المدافع وذخائرها وقريباً ننتجها بوفرة.. و..) بهذا المنطق الذي يفهمه العالم المنافق القائم على مبدأ الغلبة والتفاضل بفارق العتاد والإنتاج الحربي.. بهذا المنطق يخاطب سيد الثورة قوى العدوان والمجتمع الدولي، لا من قبيل الحرب النفسية، وإنما صدوراً عن صدقية مجربة في مكاشفة الآخر العدو بأفق المواجهة المقبل في حال استمر عدوانه على شعبنا، واتكاءً على زهاء ثلاثة أعوام من القول والفعل في ميدان المنازلة العسكرية.
يفسح سيد الثورة على الضفة الأخرى سبيلاً قيمياً يمكن لدول الجوار أن تترجم عبره رغبتها في النفوذ إيجاباً بمنأى عن منطق الغلبة والتركيع وشبق الإذلال الذي تدفع اليوم أثماناً باهظة له على مستوى اقتصادها وأمنها واستقرارها، وتوشك أن تتصدع وتنمحي بفعل تماديها في الرهان عليه واستمرارها في سياسة الهروب إلى الأمام والغوص صوب قاع مستنقع الأزمات الناجمة عنه تلافياً للغرق!
ها هو وزير خارجية الإمارات ينتحب مستجدياً نجدة العالم لبلده الذي (يتعرض لتهديد وشيك) كردة فعل مبكرة على خطاب اعتمد سيد الثورة فيه مبدأ (المكاشفة بقدرات الردع مع الامتناع عن استخدامها متوخياً إتاحة الفرصة أمام العدو للتراجع عن عدوانه..)، على أن نحيب (قرقاش) الذليل لم يَعْدُ كونه مضياً في سياسة الهروب إلى قاع المستنقع.
لقد حقق سيد الثورة بالنتيجة مبتغاه من خطاب توقع له العدو أن يكون نحيباً و.. على مسارين داخلي وخارجي ثبت لليمنيين وللعالم المنافق أن نحيب الضحية لن يشفع لها، وأن على الجلاد أن ينتحب ليصغي العالم لآلام الضحية مرغماً لا طائعاً..
هكذا تكلم سيد الثورة، وهكذا تجلى واثقاً ساكن الروع هادئ النبرة، فقذف الرعب في قلوب المستكبرين، وأشاع السكينة في الجبهة الوطنية الداخلية التي كادت تترنح في مهب النافخين في كير الفتنة والفرقة والنكوص، فانتصبت شاهقة متماسكة عازمة على بلوغ الضفة الأخرى من مجرة درب التبانة!