الجديد برس – حاورها – رشيد الحداد
«إنتهاك صارخ لحقوق الإنسان». هكذا تصف المحامية والناشطة الجنوبية، عفراء الحريري، ما يحدث في عدن من تدهور حاد في الخدمات العامة. وتعزو الحريري تصاعد حدة الإنتهاكات والتهديدات والاعتقالات في «العاصمة المؤقتة» إلى رغبة الأطراف العسكرية والأمنية المتواجدة في عدن في «إخراس الأصوات الحرة المناهضة للأوضاع التي تعيشها المدينة» على الصعد كافة: الأمنية، الاجتماعية، الخدمية، والحقوقية. «العربي» التقى الحريري التي تُعدّ أول امرأة يمنية حصلت على شهادة الشجاعة من وزارة الخارجية الأمريكية عام 2007، وأجرى معها الحوار التالي.
تعاني عدن من أزمات متعددة معيشية، ومن تدهور خدماتي شبه كامل، أين حق المواطن في الحصول على الخدمات الأساسية؟
تعاني عدن من أزمات متعددة تُعدّ انتهاكات لحقوق المواطن في انعدام واختناق الخدمات الأساسية التي ينبغي أن تتوفر، لأن حجة الحرب في عدن لم تعد موجودة، خاصة وأن كل مسؤول الآن يسمي عدن منطقة محررة. معاناة عدن أكبر من المناطق التي لم تتحرر بعد، أو تتساوى إلى حد ما مع هذه المناطق.
والكارثة الأكبر هي أن كل طرف يرمي اتهامه على الآخر ويصفه بالمعرقل لحركة التنمية ومنتهك لهذه الحقوق، في حين أن المنطق وواقع الحال والقانون الدولي لحقوق الإنسان يعتبر كل هذه الأطراف منتهكة للحقوق الإقتصادية والاجتماعية في عدن؛ لسبب بسيط أنهم جميعاً مسؤولون عنها كأطراف مباشرة أو غير مباشرة، فهم من يمتلك السلطة فيها وهم من يباشرها مباشرة أو عبر الوسطاء بشكل غير مباشر.
أين دور السلطات التنفيذية والمحلية؟ وأين حكومة الرئيس عبد ربه منصور هادي التي أعلنت عدن «عاصمة مؤقتة» من معاناة المواطنين؟
لم يلمس المواطن أي دور للسلطة التنفيذية والمحلية في عدن، ولا شأن للإعلان بأنها عاصمة مؤقتة أو غير مؤقتة ما لم يكن ذلك الإعلان قابلاً للتطبيق. هناك من أعلن بأنها عاصمة رئيسية، وهناك من أعلن بأنها مؤقتة، وكلا الطرفين لم يتخذا أي إجراءات ملموسة بهذا الشأن، متذرعاً بحجج واهية، ورامياً ومحملاً الآخر تهمة العرقلة وعدم القدرة على التحرك والتنفيذ لمشاريع التنمية، وأخص بالتحديد هنا البنى التحتية.
في حين أن الأطراف التي أعلنت عدن عاصمة كان بإمكانها أن تجعل من عدن نموذجاً لكل المحافظات الجنوبية في الوقت الحالي وشمالاً مستقبلاً. وعوضاً عن التحجج بالأعذار التي أرى أنها واهية، كان يُفترض بالأطراف المتحججة الوصول إلى نقطة التقاء للخروج من أزمة رمي الإتهامات، لأن المواطن وحده من يدفع الثمن، وعدن كمدينة لا تستحق كل هذا العبث المفتعل والمتعمد بها. عدن ما زالت تحتضن الجميع بما فيها هذه الأطراف.
طالب الكثير من الناشطين في عدن مؤخراً بتدخل دولي لإنقاذ المدينة، ما مسؤولية «التحالف» عن ما آلت الية الأوضاع في عدن؟
التدخل الدولي لإنقاذ عدن له شروطه، والطلب لا يكون عشوائياً، ويجب أن يكون معتمداً على أسس ومواثيق وآليات دولية، هذا من جهة، وكذلك التدخل الإقليمي، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه تلقائياً: هل لا يوجد تدخل دولي وإقليمي الآن؟ هناك تدخل دولي وإقليمي على مستوى اليمن ككل، وليس عدن لوحدها، وأنا كناشطة أشعر بأن هناك مسؤولية يتحملها التحالف العربي، لا تتعلق بالمستوى الإغاثي الإنساني وحسب، بل في أمور كثيرة، وربما تصل إلى المستوى السياسي / التنفيذي والأمني والعسكري والاقتصادي / الاجتماعي. ولطالما حصل تدخل بموجب وقائع كثيرة، أو بموجب الفصل السابع كما هو التدخل الدولي وإن كان بواسطة التحالف، فعلى التحالف أيضاً ومن باب هذا التدخل في تلك الشؤون جميعها، عليه أن يتحمل المسؤولية، مسؤولية إنقاذ عدن وبالمقابل مسؤولية ما يحدث في عدن من فوضى وعبث.
لكن ربما يبرر «التحالف» غياب دوره التنموي بوجود سلطات محلية في عدن؟
أتحدث عن مسؤولية التحالف في الإنقاذ بمنأى عن السياسة، فالوضع الإنساني سيء، وهذا الوضع لا يرتبط بما يوفره التحالف العربي من غذاء ودواء وكساء وذباح (ذباح الأعياد أقصد)، وإنما في تسيير عملية التنمية من إعادة بناء للبنى التحتية: كهرباء، ماء وصرف صحي، طرقات وغيرها… هذا الجانب يستطيع أن يتحمله التحالف العربي وبكل سلاسة وبساطة، ولن يقف ضده أحد أو يعرقله أحد، حتى الأطراف اليمنية لن تستطيع عرقلته إن أحكم التحالف العربي تسيير عملية التنمية في عدن دون أي عذر أو حجة حتى بما في ذلك التذرع بالفساد، طالما أنه هو من سيكون المسؤول المباشر في مجمل هذه العملية ويستطيع بذلك المساءلة والمحاسبة والعقاب أيضاً.
هل تحولت عدن إلى ساحة صراع بين مختلف الأطراف؟
مسكينة عدن، فمنذ 1967 وهي ساحة صراع، رغم أنها عاشت هدوءاً في بعض السنوات، ومن الطبيعي أن يترك كل صراع أثراً كبيراً على ملف حقوق الإنسان في المجالات المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية، فكل هذه الحقوق يتم انتهاكها. تفاقم ملف الإنتهاكات منذ العام 1994، وأصبح يكبر عاماً تلو عام، إلا أنه وبصورته الحالية أصبح أكبر كثيراً مما هو عليه في السابق، وآثاره ونتائجه أكثر عمقاً.
الحريري: «التحالف» يتحمل مسؤولية ما يحدث في عدن من فوضى وعبث
أيعني ذلك أن عدن أصبحت مدينة منتهكة؟
كل الحقوق في عدن تنتهك بمنأى عن أي مساءلة وأي محاسبة وأي عقاب، وكل المواطنين أصبحت حقوقهم منتهكة وبدون أي استثناء. هذا الإنتهاك الجماعي لا نستثني فيه انتهاك حق مدينة كاملة، وهي عدن بتاريخها ومدنيتها العريقة التي تميزت بها على مدى عقود وسنوات طويلة، فانتهاك الآثار انتهاك للتاريخ، انتهاك الأفكار والتنوع الثقافي انتهاك للثقافة، انتهاك الطابع المدني هو انتهاك اجتماعي، انتهاك الحق في ممارسة الشعائر لطوائف معينة كانت موجودة هو انتهاك ثقافي واجتماعي، انعدام البترول وانقطاع الكهرباء وشح المياه والغرق في الصرف الصحي والطرقات التي لا تصلح لأن تمشي عليها حتى الحيوانات الأليفة هو انتهاك للحقوق الإقتصادية، تفشي المخدرات والحبوب المخدرة وغيرها وازدياد معدل الجريمة… كل هذه الإنتهاكات في مجملها لها هي من آثار الصراعات العسكرية والأمنية والسياسية بين الأطراف الموالية للتحالف أو الموالية لأي جهة أخرى أو دولة أخرى.
هل لتعدد السلطات الأمنية وغياب العدالة في عدن دور في تصاعد تلك الإنتهاكات؟
لغياب الأمن وتعدد الجهات الأمنية والجماعات الأمنية والعسكرية من جهة أولاً، وثانياً لغياب السلطة القضائية (النيابة والقضاء) من جهة أخرى. وبشكل أساسي لغياب دور السلطة التنفيذية.
تعرض عدد من نشطاء اليسار لانتهاكات من قبل جماعات متطرفة في عدن مؤخراً، ما الذي يحدث؟
هذه الإعتداءات لها علاقة بالأفكار التي تحملها الجماعات المتطرفة، والتي هي جزء من منظومة الحماية الأمنية المزعومة والموجودة في عدن حالياً بشخوصها ومعسكراتها ومعتقلاتها وعدتها وعتادها. وهذا هو الإنتهاك الذي حصل لمدينة عدن التي ظلت طيلة تاريخها مشهورة بالتنوع الثقافي وقبول الآخر الذي كان في حينها متواجداً ولكن لم يكن لديه سلاح ولا مال.
هل تصاعد الإنتهاكات في عدن يعود إلى رغبة الأطراف المتصارعة في إسكات الأصوات الحرة؟
نعم، تصاعد حدة الإنتهاكات والتهديدات والاعتقالات يعود لرغبة كل الأطراف بألا يكون هناك صوت يتحدث ليس عن انتهاكات حقوق الإنسان فحسب، بل وعن حقوق الإنسان كثقافة عامة، إلا ممن كانت الأطراف راضية عنه، كل الأطراف في عدن. أما بالنسبة للسجون فهي من الواضح أنها بدأت باسم المتهمين بالانتماء لـ«القاعدة» و«داعش»، ثم تطورت إلى المشتبه بهم بالانتماء للتنظيمين الإرهابيين، ثم إلى سجون لتصفية الحسابات فيما بين الأطراف على حساب أبرياء، وانتهت بالنشطاء في مجالات حقوق الإنسان.
باعتبارك من أبرز المدافعين عن حقوق الإنسان، هل تلقيت معلومات عن السجون السرية في عدن؟ وما تعليقك على وجود تلك السجون؟
نعم، هناك سجون سرية في عدن، ولقد صُدمت كثيراً حين علمت بذلك الأمر. ما جدوى أن تكون هذه السجون سرية أصلاً، وهي قد امتلأت بالعديد من المعتقلين، والذين أصبح البعض منهم مخفيين قسراً فيها، وأهاليهم يعلمون بذلك؟ فأي سرية فيها ولما تخفيها الجهات المسؤولة عنها؟ كما وأنها تدرك تماماً أنه من غير الممكن أن تتخلص من جميع المعتقلين فيها، وتدرك أيضاً أنها حينما ستفرج عن أي منهم فلن يطول صمته مهما كانت قوة التعذيب التي تعرض لها، طال الزمن أو قصر فهو حتماً سيتحدث عن ذلك السجن السري وبالتالي لا تستطيع السلطة نكرانه… ما يحدث بالفعل عار على السلطة وعار على من يلتزم الصمت حيالها.
هل عدن تدفع ثمناً لصراع ليست طرفاً فيه؟
نعم، دفعت عدن ثمناً باهظاً جداً وكبيراً، ويكذب من يقول بأنه يستطيع تعويض عدن وأهلها عما لحق بهم من أذى وضرر واعتداء وتنكيل وعتقال واغتيال ونفي وإقصاء وتهميش. عدن تُعاقَب لأنها عدن، لكل ما كان فيها وما زال أثره فيها، تُعاقَب للخوف من أن تعود إلى ما كانت عليه في الخمسينات والستينات والسبعينات والثمانينات أيضاً، بل تُعاقَب على ماضيها وتُعاقَب لربما يصبح مستقبلها كما كان ماضيها، ولنطمأنهم صعب ذلك؛ لأن أخلاق الناس فيها تغيرت، وتغيير الأخلاق يحتاج إلى قرون عديدة، لأن من ارتكب جريمة انتهاك بحق هذه المدينة وهو هنا معروف، كان يدرك تماماً ما يفعله بعدن وما يريد الوصول إليه في عدن. للأسف وجد ضالته بكل بساطة في البعض من أهلها، والبعض قد رحلوا والبعض سافر بحثاً عن لجوء أو هجرة، والبعض هم الآن أقليات مهملة، منسية، مقصية، وشرائح أخرى تفكر كيف توفر حق المعيشة. وهناك من يلتزم الصمت ويتألم بصمت على ما وصل إليه حال مدينتهم التي ليس لهم سواها، والبعض لم يجد سوى وسائل التواصل الإجتماعي ليرفه عن نفسه ويكتب بحبر الألم.
رسالتك للسلطات المحلية وللحكومة؟
أقول للسلطة: أين أنت؟ بكل مستوياتك التنفيذية والقضائية والأمنية والتشريعية؟ أين أنت بأشخاصك بصفاتهم وليس أسمائهم؟ الغياب يفاقم الهوة بينكم وبين المواطنين، ويعمق المأساة وستتحول إلى كارثة مع الوقت، كما أن التنازل عن السيادة يقتضي وضع شروط وهذا حق لكم أمام الأطراف الدولية والإقليمية، مثلما هو التدخل له شروط.
رسالتك لدول «التحالف العربي» باعتبارها مسؤولة عما آلت إليه الأوضاع في عدن؟
رسالتي للتحالف، ليس هناك ما تخشاه، لأنك تمتلك المال والمال في زمن القهر قوة. غيّر سياستك، طالما سيطرت على كل شيء فأنت من تستطيع أن تمتلك الدفة وزمام الأمور. إبدأ في تسيير حركة التنمية والبناء والإعمار، وراقب واسأل وحاسب. فكل هؤلاء البسطاء من عامة الناس يستحقون حياة كريمة تليق بهم. لم يجدوها لدى سلطتهم، وكانوا يتعشمون خيراً بك، فساعدهم وخذ بيدهم وسترى النتيجة.
ماذا تقولين للأطراف المتصارعة؟
أقول للأطراف المتصارعة: على ماذا تتصارعون؟ من أجل مَن ولِمَن ضد مَن؟ جميعكم من نفس الجغرافيا (الجنوب)، صراعكم أنتم والأبرياء تدفعون ثمنه، وبقية الأطراف التي تتصارعون من أجلها لا تتضرر ولن تتضرر ولا حتى يصلها أثر صراعكم. فأنتم ستتحملون ذنب كل هؤلاء الضحايا الأبرياء الذين يقتلون ويعتقلون وتزهق أرواحهم عبثاً، كم دعوة أم ثكلى وأب مكلوم ومظلومين ستلاحقكم جميعاً عاجلاً أم آجلاً!
رسالتك لعدن التي أصريت على إجراء هذا الحوار وأنت داخلها؟
عدن لا تستحق كل هذا، سامحيني يا عدن، فأنت لست شنطة سفر سآخذك وأرحل وأهاجر. أنت حضارة وتاريخ ومدينة أبي وأمي، وأنا ليس لي بقعة أخرى في محافظة أخرى أستطيع أن أذهب إليها مثل كل هؤلاء الأطراف التي تتصارع فيك وتعبث بك وباسمك. أنا ليس لي سواك. سامحيني يا عدن، أقول ذلك لأن كل هؤلاء الآن سيحقدون كعادتهم من الحقيقة وسيهددون، ويبحثون عن ألف قلم مرتزق لسبي وتخويني وشتمي أو رصاصة راجعة أو طائشة أو حجر أو معتقل فاضي يزجونني فيه أو تهمة جاهزة. ومن أجل حقك علي يا عدن قلت الحق… وحسبي الله ونعم الوكيل.