الجدبد برس : رأي
صلاح الدكاك
بالإسناد الزمني لصبيحة انتصار ثورة الـ21 من أيلول 2014، شرعت السفارات الغربية وملحقاتها العربية في صنعاء توصد أبوابها.. حزم سفراؤها ودبلوماسيوها حقائبهم على عجل، ورحلوا تباعاً لتلحق بهم ـ في غضون أسابيع ـ طواقم حشمهم وخدمهم من عملاء محليين، بدءاً من قمة هرم السلطة، وانحداراً إلى حضيضه.. رحلت الوجوه وتبعتها الأقنعة، وتكشفت نواميس السيادة والحرية واستقلال القرار والديمقراطية والتعددية الحزبية والحكم والمعارضة، عن محض أباطيل وتهاويم سُمَّار سكارى..
نزحت الأقدام الغربية المبجلة منتعلةً ما تسنى لها انتعاله من أحذية وجوارب محلية صالحة للاستعمال، وانفضت حفلة الوطنيات الصاخبة القأقاءة والعتيقة عن بضع قناني ويسكي محطمة وموشومة بقبعة المرابي الأمريكي، ومواقد وأسياخ شواء خامدة مغلفة بدسومة ونتف لحم متعفنة وفتيل شعر مصبوغ بالحناء تفلَّت من لحية واعظ وهابي عجوز، وبنطال حقوقية أوروبية مثقوب الركبتين، وبقايا علم جمهوري مهلهل القماش وباهت الألوان..
كانت حراب ثورة الـ21 من أيلول مصوبة في صدر الوصاية الأجنبية الأعظم، أجل؛ لكن حجم الوصاية التي يرزح تحتها اليمن، لم يتضح لغالبية الثوار إلا خلال الأسابيع التالية لانتصار الثورة وسنوات العدوان الثلاث الذي استهدف ولا يزال يستهدف إجهاضها والقضاء عليها بشتى الوسائل وأحابيل الخسة والقبح والقذارة..
قناعة المساحة الفسيحة من الرأي العام اليمني بعد سنوات الانفضاح المستمر والمتعاظم لمشروع الهيمنة الأمريكية ولفيف أدواته المحلية والعربية، هي لجهة صوابية الفعل الثوري ونفاذ رؤيته لأفق التحديات والمخاطر التي تعذَّرت بالنسبة لكثيرين مشاهدتها حينها بمستوى وضوحها اليوم وجلاء أبعادها لأبصارهم.
لا أشراً ولا بطراً خرجنا ثائرين على منظومة العمالة بالأمس، ولا افتتاناً وولعاً بالحرب نواجه تحالف أربابها من قوى العدوان اليوم، يؤكد سيد الثورة عشية الـ21 من أيلول، في ذكرى تمام الربيع الثالث للثورة.
وتفهماً منه لسطوة نقيصة النسيان لدى البشر عموماً، يطوف بنا السيد القائد عبدالملك ـ ارتجاعاً ـ في مقاصير لحظة بائدة.. مقاصير عاصمة حكم مكتظة بأراجوزات ودمى يقرفص على مناكبها الصاغرة السفير الأمريكي والسفيرة البريطانية والسفير الفرنسي؛ والسعودي والإماراتي، آمراً ناهياً، ويشد خيوطها يمنة ويسرة فتستجيب بالقصور الذاتي لمواتها وخوائها العميم!
في العام 2010 أفشى إليَّ ـ بما ليس سراً ـ أحد أفراد شركة أمنية يعمل حارساً في السفارة السعودية (حتى أولئك الذين تكن لهم الاحترام كرموز نضال يشحذون الهبات المالية من أبو عقال والراشان وحفاظات الأطفال بلا خجل..)، وسرد لي بعض الأسماء بينها ـ بطبيعة الحال ـ الاسم الذي كان شعر رأسي يقف لمجرد ذكره (ياسين سعود نعمان)!
شغلت هذه الأرتال من الرخويات واللافقاريات السياسية سدة السلطة وسدة المعارضة عقوداً طوالاً.. ساجلت بعضها البعض بأوجاع اليمنيين، وتراشقت بمظلومياتهم وبؤسهم وتعويلهم، وكانت تحتكم في نهاية كل سجال إلى مشيئة الباب العالي الأمريكي الأوروبي، لا فرق بين معارض وحاكم ويساري ويميني وشمالي وجنوبي ضمن جوقات فرقائها، وعلى قوائم المنتفعين من فضلات (اللجنة الملكية الخاصة) وحساء مطابخ طويل العمر.. كان شريفها ووضيعها سواسية في الذل كأسنان المشط في لحية شيخ النفط.
في اللحظة الفاصلة الأخطر من سيرة مشروع الهيمنة والوصاية على اليمن، وعندما قرر المدير التنفيذي الأمريكي توسيد الخارطة اليمنية ونسيج شعبها الاجتماعي لمباضع وسواطير التمزيق وتقطيع الأوصال، انطلقت دُماه وأراجوزاته تروج في أوساط المقهورين لخلطة الأقلمة السحرية بوصفها الترياق الناجع لكل المظلوميات الاجتماعية التي نفخ فيها الغرب الامبريالي خبث كيره فتعاظمت لتغدو (معضلات معقدة لا سبيل للتعافي منها سوى تقطيع أوصال البلد والشعب إلى بضعة كانتونات بعناوين مناطقية وطائفية تحت مسمى دولة اتحادية من ستة أقاليم..)..
كان هناك مظلوميات أجل، وكانت قابلة للمرهمة وإزالة أسبابها بصورة عادلة؛ لكن سلطة أدوات الوصاية تعهدت تنميتها كسياسة حكم وصولاً إلى مداواتها بالبتر على سرير مصالح المدير التنفيذي غير المشروعة.. بهذا البسط واقتفاء منابع المعضلات وتطوراتها اللاحقة في كنف الوصاية، يناقش سيد الثورة شعبه وصولاً إلى تأكيد ما هو مؤكد وتقرير ما بات رأي اليقين من أن الثورة كانت ولاتزال خياراً شعبياً حتمياً لتلافي مآلات أقلمة وتمزيق كارثية ودورات احتراب أهلي آنفاً، ومواجهة عدوان منظور تشنه قوى غزو واحتلال مدعمة بإمكانات كونية هائلة ونفاق عالمي منقطع النظير في الراهن!
تجد شعبية الخيار الثوري ترجمتها الكثيفة في بحر جماهير المحتشدين من كل شبر تراب في اليمن، احتفاءً بذكرى ثورة الـ21 من أيلول في عامها الثالث.
خلجان من طيوف الانتماءات السياسية والنواحي والجهات الجغرافية، صبت زخمها وعنفوانها في ميدان السبعين بالعاصمة صنعاء، لا تسوقها أطماع حضور، ولا تحثها مخاوف تخلف، بل تسوق هي قوافل التبرعات بشفافية لتوسدها هنيئاً مريئاً على مذبح ثورة بات غرمها مغنماً بالنسبة لشعبنا الشريف من (حوف إلى الخضراء)!
وسواء أقر العالم المنافق أمام بذخ المشهد الجماهيري، بشعبية الثورة وعدم جدوى عدوانه عليها، أم تعامى واستغشى ثياب النكران، واستمرأ مواصلة العدوان، فإن حتمية انتصار يمن الـ21 من أيلول هي المآل في كلا الحالين، وهي الحقيقة البينة الصادمة والمخيبة لآمال معسكر الهيمنة المتآكل والذاوي.
فليمعن العالم المنافق بصره في هذه (الشرذمة) التي قوامها شعب الأنصار ومسرح اختلاجها مداميك عروش الطغاة على امتداد خرائط (الشرق الأوسط الجديد والكبير).. إنها (الشرذمة) ذاتها التي أخصبت أمة المليار ونصف المليار مسلم، بدءاً من تاريخ سحيق موافق لتاريخ ثورة الـ21 من أيلول هذا العام.. شرذمة رفعت قواعد الأمة المحمدية من (بطحاء مكة) إلى غابات (ليون الفرنسية)، ومن ينبوع (زمزم) إلى مساكب أنهار جبال الألب في لجج الأطلنطي.
لا مصادفة في اعتناق التاريخين عند مصب فجر يوم واحد، بل قدر له مخاضه وأبعاده. والأمة التي عاشت خواء مديداً مغرياً لحملات الغزاة والمحتلين على تباين ألوانهم (صليبيين وعثمانيين وأوروبيين)، امتلأت اليوم بالمشروع، وتوافرت على العنفوان لمعاودة المد بعد جزر مديد، وثوباً من ذات التوقيت اليمني الأنصاري الذي تمخض أمة الأمس المحمدية، واتكاءً على ذات السواعد المتحدرة من أصلاب (عمار بن ياسر ومالك الأشتر..).
هكذا تكلم سيد اللحظة اليمنية الفارقة سيد الثورة وحادي ركابها المهيب.