المقالات

العصبويات المنغلقة وتكوين الأمة

الجديد برس : رأي 

محمد ناجي احمد

مما لاشك فيه أن اليمن الطبيعية بامتداد حدودها قد أسهمت في تكوين الأمة العربية، لغة ورسماً وحضارة.
اليمن كما يصف حدودها الحسن بن أحمد الهمداني، الذي عاش في القرنين الثالث والرابع الهجريين – في كتابه (صفة جزيرة العرب) – (سميت اليمن الخضراء لكثرة أشجارها وزرعها، والبحر يطيف بها من المشرق إلى الجنوب فراجعاً إلى المغرب، يفصل بينها وبين البحر باقي جزيرة العرب خط يأخذ من حدود عُمان ويبْرين إلى حد ما بين اليمن واليمامة، فإلى حدود الهجيرة وتثليث وأنهار جرش وكتبة، ومنحدراً في السراة إلى شعف عنز، على تهامة، إلى أم جحد، إلى البحر حداً، وحذاء جبل يقال له كدُمّل بالقرب من حمضة، وذلك حدّ ما بين كنانة واليمن من بطن تهامة) ]ص51[. ووفقاً لهذا التحديد الجغرافي لليمن الطبيعية، التي وصفها الهمداني، فإن من يعيشون داخل هذه الحدود هم شعب يمني واحد.
لهذا ينظر اليمنيون للحجاز ونجد باستعلاء، وطبقية قومية، ترى في يمنيتها علواً، وفي الآخرين خدماً لهم.
لقد كان كل ملك من ملوك حمير يرى العالم عبيده، والعرب جميعاً خوله، ومن ذلك قول تبع:
فهل الناس – غير قحطان – إذا ما ذكرنا غير عبيد
وقال:
كل من يحتذي النعال ومن لايحتذيها من البرية عبدي.
وقال امرؤ القيس:
لا ينكر الناس منا يوم نملكهم
كانوا عبيداً وكنا نحن أربابا
وقال عمرو بن تبع:
ملكنا قبل داوود زماناً
وعبدنا ملوك المشرقين
فوصف الشاعر محمد محمود الزبيري للسان حال الإمام أحمد حين قال على لسانه مخاطباً ملوك ورؤساء العرب:
وما الأرض إلاّ لنا وحدنا
ولكنهم نازعونا بها
هذا الوصف خير شاهد على أن العصبية اليمنية قد امتزجت في مشاعر وتكوين أئمة اليمن، إلى درجة أنهم أصبحوا ينظرون إلى دول الجوار على أنهم (إذا ما ذكرنا غير عبيد) كما قال تبع.
لقد رفضت حاشد في القرن الثالث الهجري، تزويج محمد بن يحيى بن الحسين، فأقيال اليمن يرون أنفسهم أعلى عرقاً من الآخرين، بل إن التاريخ يذكر لنا أن اليمنيين ثاروا على القاضي العمراني في مصر، حين ألحق بهم بعض الأقباط في النسب. وثاروا ضد معاوية حين أراد ورهطه أن يلحقوا قضاعة بنسب معد. كما يروي لنا ذلك (أحمد محمد الشامي) في كتابه (قصة الأدب في اليمن).
ولذلك قال حكيم بن عياش الكلبي:
برئنا إلى الله من أن يكون
أبونا نزار فنرضى نزارا
ولكننا نحن نجل الملوك
يمانون أصلاً، يمانون دارا
وقال الهمداني في ما ينقله عنه (أحمد الشامي)، (وسمعت رجال بني نهد تنشد في أشعارها و(تزومل) في حروبها:
يا أيها الداعي ادعنا وابشر
وكن قضاعياً ولا تنزر
نحن بنو الشيخ الهجان الأزهر
قضاعة بن مالك بن حمير
ويهجو الشاعر اليمني النجاشي قريشاً، ولقّبها بسخينة، وهو طعام رقيق من دقيق وسمن كان القرشيون يكثرون أكله:
سخينة حي يعرف الناس لؤمها
قديماً ولم تُرف بمجد ولا كرم
فيا ضيعة الدنيا وضيعة أهلها
إذا ولي الملك التنابلة القزم
وعهدي بهم في الناس وما لهم
من الحظ إلاّ رعية الشاة والغنم)
ومن هذا الإرث ينطلق بعض الصحفيين مفاخرين السعودية في مجال الحضارة والثقافة، ومكانة المرأة في اليمن.
هذا الإرث الذي كان محركاً لرفض عمرو بن معد يكرب وهجائه قريشاً، بسبب عدم عدلها في توزيع غنائم الحروب، فقال:
إذا قتلنا ولا يبكي لنا أحد
قالت قريش ألا تلك المقادير
نُعطى السوية من طعن له نفذ
ولا سوية إذ نعطى الدنانير
بل إن حواراً جرى – في ما ينقله لنا أحمد الشامي، في كتابه سابق الذكر -بين الشيخ عبد الله بن وقيش، الذي قدم على الإمام يحيى بن الحسين، فسأله الهادي، كم معه من النساء، فقال له سبع، فقال الهادي لا يحل لك إلاّ أربع، فرد عليه بن وقيش (دعنا من هذا)، فالشيخ متمسك بأعرافه وطاغوته لا بالشرع. فقال له الهادي (تدخل معنا أبا محمد، ويكون لك ما لنا وعليك ما علينا؟ فرد عليه الشيخ (أبا حسين لك مخلاف ولي مخلاف، وأنت أخ لي وَعزِي، وإن احتجت أنجدك أنجدتك)، أي أنه في مجال الحكم تكون الشراكة مقابل النصرة، لا الانضواء في كنف الإمام.
لقد جاء الإسلام في بيئة عربية تعلي من شأن العصبية والقبيلة، والعشيرة والأفخاذ والأنساب، فأراد أن يعيد صهرها في أمة، المسؤولية فيها فردية (ولا تزر وازرة وزر أخرى)، (كل نفس بما كسبت رهينة)، وأمرهم بترك العصبية (دعوها فإنها منتنة)، بل أكثر من ذلك قال في القرآن (فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم)، والآخرة في الدين الإسلامي هي دار القرار، بل هي نعم الدار، أي أنها النموذج والغاية التي يسترشد بها في بناء هذه الأمة.
آخى بين المهاجرين والأنصار، وذهب أبعد من ذلك حين أزال الحدود العرقية بين (عدنان) و(قحطان) كجدين أسطوريين للعرب، وذلك بأن جعل الجميع ينتمون لجد واحد هو (إسماعيل): (كل العرب لإسماعيل)، و(ملة أبيكم إبراهيم، هو سماكم مسلمين)، و(كل نسب وهم)، بل إنه ضمن مشروعه ورسالته في غاياتها ومقاصدها الإنسانية، كان رسالة للعالمين.
وصهر الإنسانية بنسب واحد هو التراب (كل ابن آدم من تراب).