الجديد برس / متابعات
القائمة السعودية المسرّبة من مكتب وزير المالية السعودي إلى وسائل الإعلام قبل يومين، والتي تضم أكثر من 400 شخصية يمنية مشاركة بما سُمّيَ بداية هذه الحرب بــ«مؤتمر الرياض»، منحت مبالغ مالية، وفقاً لتلك الوثائق، وصلت إلى مئة وثلاثة وأربعين مليون ريال سعودي على شكل مكرمة ملكية، أثارت عاصفة من الجدل على الساحة اليمنية، والجنوبية بالذات، كونها شملت عدداً من الشخصيات الجنوبية من العيار الثقيل، البعض منها بدرجة «ثائر من الطراز الرفيع»، والبعض «حرامي كبير» بدرجة وزير أو سفير أو جنرال.
سارع بضعة أشخاص فقط ممن شملتهم هذه القائمة إلى نفي استلامهم أي مبالغ، ونفي مشاركتهم بذلك المؤتمر، لكن دون أن ينفوا صحة هذه الوثائق، كما فعلت السيدة توكل كرمان (200 ألف ريال سعودي)، التي نفت استلام أي مبلغ أو المشاركة في ذلك المؤتمر، وكذلك فعل ياسين سعيد نعمان، الذي نفى بدوره استلامه مبلغ 800 ألف ريال سعودي، مطالباً السلطات السعودية بتوضيح الأمر، ومتهماً بذات الوقت أحد الشخصيات اليمنية المقيمة في لندن، دون أن يسميه، بأنه يروج لمثل هذه المزاعم، وأنه يعمل بشكل مزدوج مع «الحوثيين» و«الشرعية»، «يجمعون بين الأختين»، بحسب توصيف نعمان نفسه.
صدمة وحرج
على كل حال، مثل هذه الوثائق شكّلَ تسريبها في هذا الوقت وفي هذه الطريقة الصادمة حرجاً كبيراً لعدد ممن وردت أسماؤهم فيها، ولم يتوقعوا أن تخرج من أروقة الإدارات السعودية المحاطة بستار حديدي من السرية، خصوصاً وأن المبالغ الموزعة كبيرة تبدأ من مليون ريال لكل شخص وتنتهي بــ200 ألف، ولا يمكن أن تتسرّب من مكاتب صارمة الإدارة والتحوطات كالإدارة السعودية، وبالذات المؤسسة المالية (وزارة المالية).
فهذا التسريب دون أدنى شك كان مقصوداً من السلطات السعودية كرسالة موجهة لمن يعنيهم الأمر، حتى وإن اضطرت السلطات السعودية في قادم الأيام للنفي أو التهوين من الأمر تحت إلحاح من طالهم الحرج والتشهير. نقول إنه كان ذلك مقصودا لإيصال رسالة ابتزاز وتذكير لعدد من الشخصيات التي ترى السعودية أنها قد أدارت لها ظهرها منذ شهور، إمّا لموقف سياسي مناوئ، أو تقاعساً ولامبالاة لها ولصنيعها معهم بعد أن طال أمد هذه الحرب واشدت على الرياض الضغوط لإيقافها، وهي التي تعصف بأرواح كثير من الأبرياء، كما ترى الأمم المتحدة ومنظمات حقوقية دولية كثيرة، من دون أن أي مردود من هؤلاء الـ400، الذين كلفوا وما زالوا الخزانة السعودية المئات من الملايين في وقت تعاني منها المملكة من ضائقة مالية كبيرة، والوضع العسكري على الجبهات يراوح مكانه بين التباب والهضاب.
عادة سعودية قديمة
للمملكة العربية السعودية تاريخ طويل في سياسة شراء ذمم الشخصيات والكيانات اليمنية بكل تشعباتها السياسية والقبلية والدينية والحزبية والعسكرية والفكرية، وما اللجنة الخاصة التي شكلت غداة ثورة 62م، إلا مظلة سياسية وقانونية لتمرير تلك السياسة القديمة المتجددة، وقد استفادت الرياض من هذه المظلة بأن احتوت بها اليمن تحت عباءتها من خلال كسب ودّ وولاء المئات من الرموز والكيانان المختلفة ذات التأثير الكبير سياسياً وقبلياً ودينياً وعسكرياً على طول البلاد وعرضها – نتحدث هنا عن اليمن الشمالي – حتى 90م، لتضمن بالتالي يمن خائر القوى ممزق الأوصال والأعضاء.
احتواء اليمن وتقويض طاقته التي في حال وصول قيادات يمنية وطنية يكون من السهولة تحويله إلى دولة قوية لها شأن كبير في المنطقة وعلى تخوم المملكة الجنوبية، وهذا بالضبط ما فطنت له السلطات السعودية بوصول الرئيس إبراهم الحمدي، إلى سدة الحكم منتصف سبعينيات القرن الماضي، قبل أن تتآمر عليه بمشاركة قوى يمنية معروفة وتقتله بتلك الطريقة التراجيدية الحزينة.
وعلى الرغم من قيام الوحدة اليمنية عام 90م، ودخول الجنوب حينها بدولة اليمن الموحّد، وهو كان ذو التوجه اليساري المتحرر، والرافض دوماً لكل أشكال الهيمنة والعبث السعودي باليمن شمالاً وجنوبياً، ويمنياً موحداً بعد ذلك، إلا أن هذا التدخل ظل قائماً، وإن خفَّ نشاطه نوعاً ما، إلا أن سياسة السعودية في اليمن ظلت بالمجمل تراوح مكانتها وطريقته المعتادة المستندة على فلسفة «إفساد القوى والرموز اليمنية وشراء ذممها وترويضها للمصلحة السعودية»، بل وازدادت اتساعاً خصوصاً بعد حرب الخليج الثانية وحرب 94، مضافاً إليها بعد هذه الفترة، دعماً مالياً سخياً لعدد من الجماعات الجهادية سواء بدعم رسمي أو من خلال شخصيات دينية وجمعيات سعودية خيرية افتراضية.
وأيضاً بالرغم من المكاسب السياسية والجغرافية والفكرية الكبيرة التي تكسبها المملكة من سياستها هذه باليمن على حساب هذا البلد الفقير المنهك، ومن تلك المكاسب انتزاعها بغفلة من الزمان لاعتراف سياسي وقانوني وتاريخي يمني بحدود 1934م بين البلدين، والذي يعني ذلك بالضرورة تخلي الأخير عن مساحات شاسعة من أراضيه للجارة الكبرى، إلا أن السعودية في العادة لا تغفر لكل شخصية أو كيان يمني يتقاضى مبالغ مالية، في تقاعس أو أدار ظهره لها. فللمملكة طرقها بالمعاقبة والتقريع، منها طريقة التشهير والتشنيع، خصوصاً تجاه الشخصيات والكيانات التي تشترط الارتزاق والتكسب المالي بالسر، فهنا تعمد المملكة إلى طريقة تسريب وثائق أو بيانات، ليكون ذلك قرصة بالأذن عند كل حالة تستدعي ذلك.
ففي مطلع يونيو 2012م، سرّبت السلطات السعودية قائمة تشتمل على أكثر من 2700 شيخ وسياسي وعسكري وصحافي يتقاضون 56 مليون ريال سعودي شهرياً من اللجنة الخاصة والمكتب الخاص ووزارة الدفاع السعودية، منها 3 ملايين ريال سعودي للشيخ صادق الأحمر، و3 ملايين ريال سعودي لعلي محسن الأحمر، بالإضافة إلى استلام الأخير 10 مليون ريال سعودي أيضاً سنوياً من وزارة الدفاع السعودية تحت بند «محاربة الروافض»، فيما حسين الأحمر، يستلم وفقاً لتلك الوثائق 5 ملايين سنوياً و200 ألف ريال سعودي سنوياً، وكذلك «التجمع اليمني للإصلاح» يستلم 3 ملايين ريال سعودي شهرياً.
تسريب القائمة الأخيرة قبل أيام، والتي تضم أكثر من 400 شخصية، تندرج تحت سياسية التسريب والعقاب والتقريع السعودي، بعد أن وجدت مؤخراً نفسها أمام مجموعة كبيرة من المحتالين هم في نظرها ليسوا أكثر من مرتزقة، يحاولون استغباءها والفهلوة عليها، إما عن طريق أخذ المبالغ والتواري خلف جدار الصمت والتخاذل عن أي دور ومساعدة منتظرة منهم نظير ما معهم من أموال وامتيازات، وإمّــا عن إدارة الظهر والتنكر سواء لحسابات سياسية أو حزبية أو غير ذلك.
(العربي)