الجديد برس : رأي
جعفر المظفر
شهر كانون الثاني من عام 1971 تقرر في الموصل الإحتفال بألفية أبي تمام. كنت حينها ما أزال فتى طليقا, وكان (نادي التأمين) مقابل بناية القصر الأبيض في بغداد أحد الأماكن التي ألتقي فيها مع صحبة لي كانوا في ذلك الزمن يشاركونني متعة الجلوس حول ذلك السائل السحري الذي كنا نسميه (الأبيض) الذي ما إن نأخذ منه رشفة أو رشفتين حتى يزول تعب اليوم, ونبدأ عندها رحلة الطيران على أجنحة من حرير, فإذا بنا وكأننا نولد من جديد, وإذا بصديقك الذي زعلت عليه صباحا يصير في المساء صديقك الذي لن تبدله بأحد, وكأنما الأبيض قد أعاد قلبيكما, مثلما كانا, بلا نقطة سوداء, حتى بحجم تلك التي قتلت محمد عايش.
كنت إشتريت سيارتي الأولى من نوع بيجو 404 بلوحة إدخال كمركي مؤقت من لاجئ سوري في العراق بقيمة 400 دينار لا غير, وقد حصلت على هذا المبلغ على شكل قرض من صندوق إحدى المؤسسات على أن أسدد أقساطه بدفعة عشرين دينار كل شهر. وضعت السيارة في خدمة (الكروب) حيث صار لها فضلا كبيرا على تنقلهم ورحلاتهم وضمانتهم للوصول ليلا إلى جلسات غسيل القلوب, وبعدها تناول وجبة نصف الليل, ماعونا متخما بالكوليسترول والدهون الثقيلة كنا نسميه حينها, على ما أتذكر, (باجة الحاتي).
تلك الليلة شهدت حدثا ما زال في الذاكرة, إذ ما إن بدأ الأبيض رحلته إلى الأفئدة, متجاوزا المرور على الجهاز الهضمي, حتى ذكَّرنا أحد عناصرمجموعة (البيجو 404) أن الموصل ستشهد مساء الغد إفتتاح مهرجان الإحتفال بالذكرى الألف لرحيل شاعرها العظيم أبي تمام, وكنا قد إتفقنا الذهاب صباح اليوم التالي للبقاء هناك طيلة أيام الإحتفالية, أغرانا بذلك حضور العديد من الشعراء الكبار كان من بينهم بلند الحيدري ونزار قباني والشاعر السوداني محمد الفيتوري ولميعة عباس عمارة غيرهم. وهكذا إقترح ذاك الصديق, بدلا من إنتظار الصباح, قضاء بقية السهرة في سيارة البيجو على طريق الموصل, على أن أكتفي أنا برشفتي اليتيمة حتى أضمن وصولهم سالمين. وقد قبلت التكليف فالمناسبة أعظم من أن يتغلب عليها الطمع برشفة ثانية من ذلك السائل السحري الأبيض, خاصة وأن النائب محمود الحسن لم يكن قد ولِد بعد, ومجلس النواب لم يكن قد عقد جلسة التصويت على منع المشروب لكي يضمن وصول العراقيين إلى الجنة, مما ضمن حصولنا بسهولة على مرادنا من أسواق الموصل.
في المساء كنا في قاعة الإدارة المحلية التي سيشهد مسرحها صعود الراقصين على أجنحة الكلمة. كان هناك في مقدمة الصفوف حشد من الشعراء الذين كنا نتطلع إلى التواجد بالقرب منهم وجها لوجه, وحين بدأت الجلسة الشعرية تألق كالعادة نزار قباني في قصيدته التي ذاع صيتها (إعتذار) ثم أبكتنا رثائية الفيتوري, حتى حانت اللحظة المذهلة.
من بين الصفوف الأمامية نهضت الشاعرة لميعة عباس عمارة بقامتها الهيفاء. مدت يدها إلى مُجالِسها ثم بعد أن همست في أذنه بضعة كلمات قام الرجل ومد يده وصاحبها. كثيرون في القاعة ربما تصوروا الأمر مثلما كنت قد تصورته. هذه السيدة الشاعرة ربما أرادت مساعدة الرجل لمغادرة القاعة تلبية لطلبه. الرجل كان يرتدي, خلاف كل الحاضرين, دشداشة بيضاء و(قبوطا) اسودا كذلك الذي إعتاد الحراس الليلين إرتدائه في ليالي الشتاء الباردة. كان كريم العينين, غامق السمرة, طويل القامة, أما وجهه فكان خصما عنيدا للوسامة, إذ لم يترك الجدري مكانا فيه دون أن يثقبه بيده اللعينة.
لكن “عمارة” بدلا من أن تتجه بالرجل إلى خارج القاعة, إتجهت به به نحو المسرح لتتركه واقفا خلف منصة الإلقاء التي كان قد غادرها توا أحد الشعراء الكبار, ثم إذا بعريف الحفل يعلن أن الوقت قد حان للإستماع إلى شاعر من اليمن بإسم (عبالله البردوني) وقصيدة تتحدث عن عروبة اليوم وعن وضاح اليمن..
صبرنا على الرجل وهو يأخذ رشفة ماء من قدح أتى به عريف الإحتفال. نظر الجميع إلى الجميع مستغربا من بروده وهدوئه. أزاح الرجل بِكُم ردائه ما تبقى من الماء على شفتيه, ثم بدأ قراءته لقصيدته المذهلة, عن “صنعاء” و”وضاح اليمن” الذي راح ضحية للعشق مدفونا بأمر من السلطان, وكمحاكاة لقصيدة أبي تمام الشهيرة (السيف أصدق إنباء من الكتب ..) بدأ البردوني قصيدته :
ما أصدقَ السيف إنْ لم ينْضِهِ الكذِبُ / وأكذبَ السيف إن لم يصدق الغضبُ
أدهى من الجهل ، عِلْمٌ يطمئنُّ إلـى / أنصافِ ناسٍ طغوا بالعلم واغتصَبوا
قالوا همُ البَشَرُ الأرقَى، وما أكلوا / شيئاً، كما أكلوا الإنسانَ أو شـــربوا /
ثم قال وقال وقال, وكنا مذهولين, ظنا منا بأن الرجل لم يحضر إلا طمعا بوجبة عشاء مجانية, فإذا به وقد أنسى الحاضرين جوعهم, ثم رأيناه, حينما نزل من المسرح بصحبة سيدتنا “عمارة” وقد صارأكثر وسامة من كل الشعراء.
وأذكر أن القاعة كلها وقفت تصفق للرجل حينما قال:
ماذا أحدث عن صنـــــــعاء يا أبتي / مليحة عاشقاها الســــلُ والجربُ
ماتت بصندوق وضاح بلا ثمن / ولم يمت في حشاها العشقُ والطربُ.
أما وضاح اليمن فقصته معروفة. قيل أن شبابيك الحي كان تُفتح إذا سمعت نساؤها وقع أقدامه, فقد كان غاية في الوسامة حتى أن زوجة السلطان كانت قد أغرمت به, فقرر الأخير مفاجأة زوجته بالعودة عن قصة السفر التي كان إخترعها, فلما طرق سمعها خبر عودته أمرت وضاح أن يختفي في صندوق ملابسها ظانة أن السلطان لن يفكر بتفتيشه.
لكن السلطان, وعيناه تتجولان في كل أرجاء الغرفة, لم يخبرها عن سر عودته المفاجئة, فالإتيان على الخبر كان سيأكل منه الكثير, مفضلا أن يرى الجند المرافقون خلو الغرفة من وضاح لكي يكونوا شهودا على عفة زوجته, ولكنه قبل أن يغادر طلب منها أن تهديه الصندوق, فأسقط في يدها, ثم أمر الجند حينما وصلوا خارج أسوار القصر أن يحفروا قبرا لينزلوا الصندوق فيه, وقبل أن يغادر وقف المهيوب على حافة القبر مخاطبا نزيل الصندوق: يا وضاح, إن كنت فيه فخير لنا, وإن لم تكن فيه فخير لك.
مات البردوني الكبير قبل سنوات, وأظنه يدري أن وضاح اليمن لم يمت بعد, فها هويتسلل في كل ليلة من صندوقه لكي يتغلب على كل السلاطين الذين يحاولون أن يدفنوه حيا.