المقالات

سجَّادةُ بِن سُميط !

الجديد برس : رأي 

مصباح الهمداني 

بينما أقلِّبُ بعضَ الكُتب علِّي أجدُ كلماتٍ جميلة أقدمها لسيدة نساء العالمين، بضعة المصطفى، الطاهرة العالمة الزكية، شبيهة أبيها، والتي يرضيه كما قال ما يرضيها، ويغضبه ما يُغضبها…
أبحَثُ عن عُباراتٍ تليقُ بمقامِها العالي، أو في أقلِّ الأحوال، أصعدُ بها إلى مقامِ رضاها، سلام الله عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها.

صدِّقوني أولا تُصدقوني، ولكنها الحقيقة التي لا يستطيع عالِم أو باحِثْ أو حتى مُستشرِق إنكارها وهي؛ أن فاطمة هي مفتاحُ قلب مُحمَّدْ صلى الله عليه وآله وسلم، ومن لم يعرِفْ فاطمة فلن يعرِف رسالةَ مُحمَّدْ، ولن أُدخِلكم في متاهةٍ فلسفية نُخبوية، والحديثُ المُبَسَّطْ هو الأقربُ للقلوب.

قلِّبوا مكتبات العالَم، ستجدون الكُتب التي كُتبَتْ في فاطمة “ع” قليلة وشحيحة، وتكادُ تكونُ منعدمة خاصةً في البلاد التي ولدت وعاشت وأنجبت وعانت وماتت فيها فاطمة.. بل سيشِيبُ رأسكَ وأنتَ تُقلِّبْ آلاف الكُتب التي أُلِّفَتْ في غيرها، وسيصابُ سمعك بالصمم وأنتَ تسمعُ عشرات الآلاف من المحاضرات ولا تسمعُ فيها لفاطمةٍ ذِكرا.

فماذا أكتُبُ لفاطمة في ذكرى ميلادها النٌّوراني الطاهِر!
لا زلتُ أتذكَّر وأنا أسبَحُ في مستنقع الوهابية القبيح، حين مررتُ يومًا من أمامِ محلٍ لأحدهم، فأمسكني بقوة وقال لي:
أنتَ في المكانِ الخطأ يا ولدي، لا يخدعونكَ هؤلاء الوهابيون، فهم أعداء مُحمَّدْ وآل مُحمد!
لم أكُن حينها أعي أعماقَ حديثَ ذلكَ الرجل الستيني، ولم أفهَمْ مِنْ جُملته إلا ظاهرها، وحين رأى في عينَيَّ التعالي والاستخفافَ به، قالَ وفي عينيه غشاوةً مجللةً بالدَّمعْ:
-سأعطيكَ كتابًا وأرجو أن تقرأه، وخُذْ من دكاني ما شِئتَ مجانًا، بِشرط أن تقرأهُ كامِلاً..
تعجَّبتُ يومها من ذلك الرَّجل، فهوَ ليسَ بعالم، ولا فقيه، وبالكاد يقرأ ويكتب..
أمسكتُ بالكتاب وقرأتُ عنوانه “فاطمة من المهد إلى اللحد” ..كان الكتابُ من الحجم الكبير، لكني اطمأننتُ حينَ قلبتُ صفحاته والكتابة بالخط الكبير. نظرتُ إليه وقلتُ له:
-أنتَ لستَ بسيد فلماذا تهتَمَّ بفاطمة وهذه المسائل..قاطعني وقد بدا عليه الغضبِ وقال:
-فاطمة يا ولدي ليستْ حق بني هاشم، بل هناك سادة قد أصبحوا من كبار الوهابية .. وأخذَ يُعدد لي أسرًا هاشمية ويقول:
-تعرف بيت فلان منهم فلان وفلان وفلان قد أصبحوا طرا… سراب… أنذ… وهابيون قُحْ، وعندك بيت فلان منهم فلان وفلان وفلان قد أصبحوا ملاعين والدين، تحدثهم عن فاطمة ويتعصوروا حينَ أحدثهم عن فاطمة وكأنهم رقاصا…
ضحكتُ كثيرًا ذلك اليوم وهو يصفُ لي حركات وجوه وأعين وأيدي بعضهم ممن أعرفهم جيدًا، وقد كانَ بعضُهم مُدرسين يُدرسونني. وأخذَ يحُثني بصدق وإصرار واهتمام وهو يودعني ويقول:
-ياولدي فاطمة في هذا الكتاب ستقودكَ إلى أبيها وبعلها، وحين تعرفهم جيدًا سيقودونك إلى الله وحينها ستذهبُ إلى الجنة.. ثمَّ أكمل حديثه وهو يخطو بخطواتٍ خلفي قائلاً:
-هؤلاء الذين يُدرسونك على قلوبِهم غشاوة ويَعبُدون الريال السعودي، فرواتبهم من هُناك يا ولدي.

والله الذي لا إله غيره..أنني أتذكر هذه الحادثة والتي مرَّ عليها عشرات السنين إلاَّ أنها من أقوى الصدمات والدروس والعِبَر في حياتي..
فذلك الستيني لا يقربني أبدًا، ولا أعني لهُ شيئًا، إلاَّ أنَّ عاطفةَ الرحمة اشتعلتْ في قلبه، وكأنه يراني ببصيرته أغرق في مستنقع الوهابية، وإنني اليومَ أدركتُ حقيقةً بأنَّ أولئكَ المُدرسين كانوا بالفعلِ يستلمون رواتبهم من بني سعود لنشر الوهابية الرذيلة في عقول وقلوب اليمنيين الأُصلاء الفُضلاء..

***
اليومَ وأنا أُقلبُ كُتيِّبًا جميلاً رائعًا خفيفًا، أراهُ من أجمَلْ، وأجزَلْ ما كُتبَ عنها، وهو بعنوان” فاطمة هي فاطمة” يتحدَّثُ عن سيدتي ومولاتي الزهراء، وبينما أرتِّبُ بعض الكلماتِ، وصلني خبرٌ فاجع، وحدثٌ جلل، ومُصابٌ أليم، تفاصيله في التالي:

في صباح الجمعة، والشمسُ تلتحِفُ منزلَهُ المُتواضِعْ، يُجَففُ ذراعيه بطرفِ كُمِّ ثوبه، ثمَّ يفتَحُ النافذة الصغيرة في مجلسه لتدخُلَ أشعة الشمس، لكي يتبدَّل الهواء..وإذا به يَسمعَ الصوتَ الذي يُحبُّهُ، ويأنسُ له، يناديه بحنانٍ ومحبةٍ :
-السَّجادةُ يا زوجي الحبيب جاهزة.. يرُدُّ عليها بصوته الأجش الحنون:
-سآتي حالاً يا أمَّ سالِم..
يمتلئ قلبه رضا وترتسمُ على وجهه ابتسامةٌ خفيفة، تجعلُ من وجههِ المضيء أكثرُ جمالاً وإشراقا.. يجُرُّ خطواته نحوَ الغرفةِ المُجاورةُ لمجلسه، ويُطلقُ لعينيه رؤية الغرفةِ بكل تفاصيلها، فإذا به يرى الطاهرة الفاضلة قد استقامتْ في سجادتها وفرشت سجادته بجوارها، في نظامٍ دقيق لم يتغيرْ منذُ عشراتِ السنين..
وقبلَ أن يخلعَ نعليه ويمدُّ قدميه إلى سجادته، يأتيهِ صوتٌ من الخارج يٌناديهِ باسمه..يعودُ إلى الوراء خطوات، ويسحبُ بابَ الغرفةِ من الخارج..
ويُجيبُ الصوتَ قائلاً:
-تفضَّل..تفضَّل.. أُدخُل.. أُدخُلْ..

يتنحنحُ أحدهم، ويُردِّدُ في صعوده (الله..الله) ويصعدُ الدرجَ إلى الطابقِ الثاني حيثُ مجلسَ العالمُ الجليل، فيستقبلهُ العالمُ بحفاوة، ويأخُذه إلى المجلِسْ، ويُجلسه في رأسِ المجلسِ بعدَ أن فرشَ لهُ إحدى البطانيات، وصَبَّ لهُ كوبًا من القهوة، وقدَّمَ له بعضَ الكعك المُعدُّ خصيصًا للضيوف..
كانَ الرجلُ الداخِلْ كثَّ اللحية، في الثلاثينات من عُمره، متوسط القامةِ، ممتلئ الوجه، في عينيه الواسعتين ترقُّبٌ وحذَر، وعلى شفتيه ابتسامة مصطنعة..
جلسَ وهو يتلفَّتُ يمنةً ويسرة، وأخذَ يرشُف قهوته بسرعة.. ويقول:
إجلس يا سيدي أريدُ أن أحكي لك حكايتي وأستفتيك..

كانَ العالِمُ واقِفًا وردَّ عليه قائلاً:
-لأني متوضئ، سأكون في الغرفةِ المجاورة لبضعِ دقائق، وسأعودُ إليكَ حالاً..ثم التفتَ إليهِ وقالَ مؤكِّدًا:
-خذ راحتكَ يا ولدي فالبيتُ بيتك..
أخذَ الشابُ يُحملِقُ في بقعةِ العالِمِ ويرى مصحفًا كبيرًا يفتحُ ذراعيه فوق كُرسيٍ خشبي على سورة الكهف، وتتمددُ بجواره مسبحةٌ طويلة تزيدُ عدد خرزاتها على الألف، ويقفُ بالجوار كتابٌ عنوانه (الأم)..
ثُمَّ يُقلِّبُ الشابَ بصَرهُ في الكُتبِ المرصوفة على أرفف المكتبة الملتصقةِ بالجدار فيجدُ التفاسير الكثيرة، وكتبَ الفقه المتعددة..
يُفكِّرُ في الموجود ويتحركُ لسانهُ ببطيء ويُردد(مصحفُ وسبحة وتفاسيرُ وفقه).. لكنَّه ما يلبَثْ أن يمسحَ على لحيتِه ويمسَحَ صحوةَ بصَرِه، ويتذكر شيخه الكبير وهو يسردُ لهُم الأدلة الكثيرة من كُتُبِ (ابن تيمية، وابن القيم، ومحمد عبد الوهاب)..
ثم يَجدُ لسانهُ يُردد (كافِرْ وإن صلى وصام)

كانَ صوتُ العالمِ يصلُ إليه في همهماتٍ خفيفة، وكانَ قلقُهُ يزيد، وأدرَكَ أن عامِلَ الوقتِ مُهم، وأن الفرصةَ مواتية، قبلَ أن يعودَ أحدُ أبناء العالمِ الثلاثة (سالم وعلي وأبو بكر)..
أخرجَ الشابُّ مسدسه، ونهضَ من مكانه، وتسارعتْ خُطواته باتجاه الغرفة المُجاوره.. دفعَ البابَ قليلاً، وظهرَ له العالمُ واقفًا بثيابه البيضاء، وقريبًا منه تقفُ سيدةٌ مُغطاةٌ بثيابٍ سوداء، لم ينتبه لهُ أحدْ، فالعالمُ وزوجته في لقاء مع ربِّ الأرض والسماء..

أطلقَ الشابُّ رصاصته الأولى في وسط ظهرِ العالمِ الجليل، فسقطَ ساجِدًا فوق سَجادته في الحالِ مضرجًا بدمائه.. أتبعها بطلقة ثانيةِ وثالثة.. وفيما صرختِ المرأة الطاهرة..ارتبكَ المُجرمُ وفرَّ هاربًا، لتستقبلهُ السيارةُ المتوقفةُ خارجَ الدار، وينطلقون كالريح، يجرونَ جريمتهُم التي أنهوها بإجرامٍ مُتقَنْ، وإعدادٍ مُنظم…

صعدت روحُ العلامة الورِعُ الزاهِد الحبيبُ عيدروس بن عبد الله بن علي بن سميط .. فقيه حضرموت وعالمها، وإمامُ جامع المحضار بتريم، عن عمرٍ يناهز ال84…

صعدت روحُ حفيد الزهراء في ذكرى مولدها، فماذا أكتُبُ لها، وماذا أقولُ في حضرتها، وهي الآنَ تستقبِلُ آخرَ الآلافَ من أحفادها، مضرجًا بدمائه،مُستهدفًا غِيلة، ومقتولاً في منزله، فوق سجّادته…

عُذرًا سيدتي الزهراء، وساعَدَ الله قلبكِ الطاهر، وعظَّم الله لكِ ولنا الأجر، فأنتِ كل يوم تستقبلينَ أحفادكِ وكأننا أُمةٌ قد عاهدت الشيطان على قتلِ أولياء الرحمن…

سيدتي؛ لقد صعدت روحُ الحبيب في ظل احتلالٍ سعودي إماراتي أمريكي، وبترتيبٍ منهم..ولو حدَثَ القتلُ في صنعاء حيثُ رجال الرجال؛ لما تأخرَ القبضُ على القاتِل الداعشي اللعين، والعميل الساقط للمحتلين؛ لأكثر من 24 ساعة…

وهكذا سيستمر تساقط العلماء والخُطباء في المحافظات المُحتلة واحدًا تلوَ الآخر مادام الشرفاء متقاعسون عن أداء واجبهم.

عظَّم الله لكم الأجر يا أسرة الحبيب، ويا أهلَ حضرموت، ويا أبناء اليمن، ويا أمة الإسلام، ويا أحرار العالَمْ..
ولا نامتْ أعيُن الغزاةِ الجُبناء.