الجديد برس : ساسة بوست
«إن حكم اليمن يشبه الرقص على رؤوس الأفاعي»، هكذا شبّه علي عبد الله صالح طريقته في إدارة شئون اليمن، وهو التوصيف الأدق فعليًا للسياسة التي انتهجها طوال 33 عامًا هي مدة حُكمه الرسمية للبلاد.
لم يترك صالح طرفًا من الأطراف المتنازعة في اليمن إلا وتحالف معه، وحاربه فيما بعد، حسبما اقتضت المصالح السياسية، ولم يقتصر الأمر على تحالفه الأخير مع الحوثيين، والذي كان أشبه برقصة الموت على رأس وحش ضخم اقتات على ما تبقى منه، ولكن تاريخ التحالفات والتناقضات في حكم اليمن يعود لسنوات حكم صالح الأولى، حين كان جنوب اليمن غير خاضع للشمال المُسيطر عليه، فبدأ صالح في عقد التحالفات مع «تنظيم القاعدة»، لمحاربة الجنوب الاشتراكي.
وهو ما يؤكده بحث وكالة «ديفينس وان» الإخبارية عن استخدام صالح لتنظيم القاعدة في اليمن، مُشيرًا إلى أن اليمن كان وجهة للتهريب والهجرة، في منطقة القرن الأفريقي؛ مما أدى إلى تنامي القوات المتطرفة بها، وهو ما استغله عبد الله صالح لخدمة مصالحه.
أزمة جنوب اليمن.. وجذور تنظيم القاعدة
في بداية تولي الرئيس اليمني علي عبد الله صالح حكم اليمن، كان الجنوب منفصلًا عن الشمال؛ فيقول عن ذلك الباحث والناشط اليمني، فارع المسلمي، في بحثه «القضية الجنوبية في اليمن: حرب داخل حرب»: «إنه ومنذ عام 1978 كان شمال البلاد خاضعًا لحكم صالح، وفق خطوط شعبوية وقومية عربية، وفي المقابل كان جنوب اليمن هو الدولة الشيوعية الوحيدة في العالم العربي، وقد كانت كل محاولات الحكومتين لدمج الجنوب والشمال في دولة واحدة تبوء بالفشل، وذلك حتى انهيار الاتحاد السوفيتي، والذي تلاه انهيار اقتصادي لجنوب اليمن؛ وهو الأمر الذي أدى بالجنوب في النهاية إلى القبول باتفاقية وحدة، كجزء من خطة وضعها قائداهما علي صالح، وعلي سالم البيض عام 1990».
حازت الاتفاقية بدعم واسع النطاق، إلا أن الجنوب بعد فترة قصيرة اشتكى من أن الاتفاقية قد آلت لصالح الشمال؛ إذ سيطر الشماليون على مقاعد البرلمان في الانتخابات البرلمانية عام 1993؛ مما جعل الوحدة الوطنية اليمنية حديثة العهد مهددة بالفشل.
يحكي الدكتور جمال سند السويدي في كتابه «حرب اليمن 1994.. الأسباب والنتائج»، عن فشل الوحدة اليمنية، واندلاع الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب، قائلًا إنه بالرغم من الشكل الرسمي الذي اتخذته الوحدة، إلا أن اليمنين كانا مرتبطين معًا منذ عام 1990 في نظامٍ مندمج، وليس متلاحمًا، مُشيرًا إلى أن هناك فرقًا كبيرًا بين الاندماج والتلاحم؛ فالدمج يكون رسميًا لوحدات ومصالحٍ حكومية كانت مستقلة سابقًا، أما التلاحم يشبه في باطنه هذا النظام الذي يحكم الولايات المتحدة الأمريكية، من نمو إحساس الفرد بالجماعة وبالوحدة الوطنية، وينتج عنه فيما بعد هذا الدمج كخطوة بديهية، تستطيع أن تتحدى المعوقات لفترة طويلة، وهو ما افتقدته اليمن في اتفاقية الوحدة التي تمت بجرة قلم في مايو (أيار) من عام 1990.
أما عن أسباب الحرب الأهلية، فيشير السويدي إلى أن الحكومتين الشمالية والجنوبية، كانا يفتقران في تجربتهما لحسن النية؛ إذ كان كل طرف منهما يسعى لتطوير آليات حكمه وتوسيع نفوذه على حساب الطرف الآخر؛ مما ساعد على اشتعال فتيل النزاع بين «حزب المؤتمر الشعبي» وممثله صالح، وبين «الحزب الاشتراكي اليمني» وممثله سالم البيض.
وفي تلك الفترة شهدت اليمن عودة الجهاديين اليمنيين من أفغانستان، بعد أن تعرضوا لهزيمةٍ مُرة على يد الجيش الأمريكي، لكنهم كانوا متأثرين بتجربتهم الجهادية، ساعين لنقلها إلى مرحلة جديدة، فأطلقوا على أنفسهم المحاربين القدامى، وهو الأمر الذي سعى صالح للاستفادة منه قدر المستطاع، خاصةً في حربه الأهلية ضد الجنوب؛ فعمد إلى تشجيع المجاهدين على الاستقرار في الجنوب، وأنشأ مؤسسات تعليم سلفية بدعمٍ من المملكة العربية السعودية، والتي كانت حليفته حينذاك في القضاء على الشيوعيين العرب، وحينها أعلن مؤسس تنظيم القاعدة أسامة بن لادن دعمه للخطة.
«معركتنا على الأرض، لا في السماء»، هذ ما صرح به دكتور ياسين سعيد نعمان أحد زعماء الحزب الاشتراكي اليمني، تعليقًا على تنامي الحركة الإسلامية في الشمال؛ إذ اتخذ صالح منهجًا سياسيًا في تلك الفترة – سنوات الوحدة اليمنية – يسعى لصعود التيار اليميني، والذي يشمل الحركات الإسلامية، وحركة «الإخوان المسلمين»، وذلك لتقليص دور الأحزاب الاشتراكية في الدولة اليمنية ومحاربتها.
لم يكن هذا التدخل السياسي من قبل صالح هو الخطوة الوحيدة التي قام بها في الحرب غير العلنية التي شنها على الحزب الاشتراكي اليمني وقياداته، وهو ما يؤكده رسالة الأخضر الإبراهيمي – دبلوماسي جزائري – إلى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة حينذاك كمبعوث خاص من قيادة الدولة المنشقة – جنوب اليمن – عقب أزمة الخليج الثانية، فيروي السويدي نص الرسالة في كتابه قائلًا: «عَمدَ ذوو النفوذ في القيادة الشمالية سابقًا، التي عارضت الوحدة والتقدم والتحديث، إلى شن حرب غير معلنة على قيادة الحزب الاشتراكي اليمني، وقد تم تنفيذها بالاغتيالات السياسية، والإرهاب بأشكالٍ متعددة، واستخدمت قوات إسلامية أصولية في هذه الهجمات»، في إشارة لمليشيات تنظيم القاعدة باليمن.
أما المجاهدون، فيحكي عنهم فارس، وهو أحد العائدين من أفغانستان، مشيرًا إلى الدور الذي لعبته الحكومة في التعاون مع الجهاديين السابقين، إذ إن الحكومة اليمنية حينذاك استخدمت اتصالاتها للوصول إليهم، عارضة عليهم الوظائف.
كان فارس شخصًا متقشفًا، مطلقًا لحيته بطريقة سلفية، بحسب تقرير الـ«فورين بوليسي»، وهو أحد هؤلاء الذين وصلوا إلى البلاد اليمنية عقب انتهاء الحرب الأفغانية، وتم حبسه عام 1993 لتورطه في عملياتٍ إرهابية، إلا أنه – وفي عام 1994 – أُطلق سراحه، هو واثنان من المقاتلين الأفغان كانا معه: «فاضلي، ونهدي»؛ وذلك من أجل القتال جنبًا إلى جنب مع قوات صالح في الحرب الأهلية التي اندلعت ذلك العام بين شمال وجنوب اليمن، مُشيرًا إلى أن النهدي قد انضم بعدها إلى اللجنة الدائمة لحزب صالح الحاكم، في حين عُين فاضلي في مجلس الشيوخ بالبرلمان.
أما فارس فقد كان الحارس الشخصي لخالد الزنداني، وهو واحد من الشيوخ المحافظين ومؤسس جامعة إيمان، والذي اتهمته الإدارة الأمريكية عام 2004 بالإرهابي العالمي، وأنه الأب الروحي لابن لادن؛ إذ عُرف عنه وعن جامعته التلقين الجهادي، خاصةً بعد القبض على جون ووكر ليند متطوع «طالبان» الأمريكي، والذي دَرَسَ هناك.
إلا أن الأمر لم ينته عند هذا الحد، ففي أواخر التسعينات، وعندما ضيقت الإدارة الأمريكية النطاق على حكومة علي عبد الله صالح، قال فارس إنه سافر مرتين لصنعاء، حيث أعطاه مدير منظمة الأمن السياسي اليمني، غالب القامش، حوالي 2300 دولار، وذلك من أجل الامتناع عن شن هجمات ضد مصالحٍ غربية، وقد وقع أحد هذه الاجتماعات في مكتب الأمن القومي، والآخر في مكتب قامش الخاص.
أشار فارس إلى أن الحكومة بدأت في الدفع لهم عقب هجوم على الأجانب في عدن عام 1998، مُضيفًا إلى أن مكتب الشرطة المدنية قد وفر للجهاديين الآخرين وظائف وهمية في وزاراتٍ غير هامة، وكانت تدفع لهم مرتبات شهرية.
القاعدة «بيادق» صالح في لُعبة السلطة السياسية
كان صالح لاعبًا مزدوجًا، يشبه أبطال أفلام الجاسوسية الهوليودية، تلك النوعية التي كان البطل فيها قادرًا على خداع جهازين أمنيين لدولتين متنازعتين، من أجل تحقيق مصالحه الخاصة، أو كسب بعض المال؛ إذ إن صالح على الرغم من اتخاذه موقفًا رسميًا متضامنًا مع الولايات المتحدة الأمريكية ضد هجمات القاعدة، ووجودها على الأراضي اليمنية، إلا أنه كان لا يتوانى عن الاستعانة بهم بطرقٍ أخرى غير رسمية، بل أحيانًا يقدم لهم يد المساعدة.
فيحكي الوكيل السابق لمكتب التحقيقات الفيدرالي، علي صوفان، عن الإرث السييء لعلي عبد الله صالح في «ذي أتلانتيك» قائلًا: «كان صالح قوة لا يستهان بها»، مضيفًا أنه في تسعينات القرن الماضي قد استعان بالمقاتلين الإسلاميين؛ للفوز في الحرب الأهلية باليمن، وتوحيد البلاد تحت حكمه، وهو ما نجح فيه فعلًا. وكان الثمن الذي دفعه هو التغاضي عن أنشطة تنظيم القاعدة في الأراضي اليمنية، وقد وصل الأمر به حد السماح للمتعاطفين مع القاعدة بالعمل في أجهزة المخابرات، حتى أنه وفي أواخر التسعينات قد تبنى خطابًا جهاديًا، يدعم فيه الجهاد ضد إسرائيل، والحشد ضد الولايات المتحدة باعتبارها موالية لليهود.
كان ذلك كله قبل حادثة «يو أس أس كول» (USS Cole)، وهو هجوم إرهابي ضد مدمرة الصواريخ التابعة للولايات المتحدة الأمريكية، وذلك أثناء تزويدها بالوقود بميناء عدن، في أكتوبر (تشرين الأول) من عام 2000، والذي قُتِلَ فيه 17 بحارًا أمريكيًا، وأصيب 39 آخرين في أعنف هجوم على سفينة تابعة للبحرية الأمريكية؛ إذ تغيرت سياسة صالح حينها إلى النقيض.
وفي فترةٍ وجيزة، تحديدًا بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) عام 2001، تغير الخطاب السياسي لعبد الله صالح من الهجوم على الإدارة الأمريكية إلى التضامن في حربها مع الإرهاب، ويشير علي صوفان في شهادته إلى أن الأموال الأمريكية كانت قد بدأت تتدفق في الخزانة اليمنية لمساعدة صالح في حربه ضد تنظيم القاعدة، مُضيفًا إلى أنه قد التقى بصالح في تلك الفترة من أجل مناقشة هروب إحدى عناصر القاعدة في اليمن، وكانت النتيجة هي طلب صالح لمزيد من المال الأمريكي.
يشير صوفان إلى أن عبد الله صالح كان لا يكف عن طلب المال، وما أن يصل إليه ما يحتاجه، حتى يقرر في بعض الأحيان العفو عن المتهمين؛ مما كان يزيد الغضب الأمريكي منه.
صالح كان على علم أنه شريك لا غنى عنه في الحرب الأمريكية ضد القاعدة، ولذلك ورغمًا عن تخاذله في بعض الأحيان، إلا أن الأموال الأمريكية ظلت تتدفق في خزانة الدولة اليمنية *علي صوفان
يستكمل صوفان حديثه قائلًا: «إن صالح لم يكن قديسًا، إذ تمكن أن يصبح في واحدة من أفقر بلدان الشرق الأوسط، واحدًا من أغنى رجال العالم، مُشيرًا إلى أن صالح لم يدخل لُعبة واحدة، إلا وكان هو الطرف المستفيد بطريقة أو بأخرى».
كما يشير التقرير إلى أن الولايات المتحدة قد قامت بتدريب قوات مكافحة الإرهاب اليمنية، بقيادة ابن أخ صالح، وقدمت معدات عسكرية بما في ذلك من طائرات هليكوبتر، ومدرعات ومعدات المراقبة ونظارات للرؤية الليلية، كما شنت الإدارة الأمريكية العديد من الغارات بطائراتٍ دون طيار كانت تستهدف جماعات من التنظيم، حتى جاء الرئيس أوباما، وقام بعمل واحدة من أكثر العمليات إثارةً للجدل للأمن القومي، وذلك من خلال استهداف وقتل مواطن أمريكي، وهو أنور العولقي، والذي أشيع أنه من المخططين لتنظيم القاعدة في شبه جزيرة العرب، إلا أن كل هذه الجهود، والتي كانت تهدف لهزيمة مجموعة واحدة باءت بالفشل؛ نظرًا لاحتمال أن يكون التنظيم ذراعًا سياسيًا استخدمه صالح في لعبته السياسية، وقدم له يد المساعدة بطريق غير مباشر.
يقول مسؤلون أمريكيون: إنهم فهموا منذ زمن كون صالح شريكًا متقلبًا، ضد تنظيم القاعدة في جزيرة العرب، وأنه في كثيرٍ من الأحيان قد أبقى على مرتبات المقاتلين الجهاديين السابقين، بل أساء استخدام المساعدات الأمريكية لمكافحة الإرهاب لدحر أعدائه المحليين، لكنهم لا ينكرون أيضًا أنه في أحيانٍ كثيرة أخرى قد حارب بصدق أعضاء القاعدة الذين شكلوا تهديدًا للولايات المتحدة الأمريكية.
عندما شن صالح حرب «الرجل الواحد».. من أجل استعادة سلطته
في السنوات الأخيرة من حياة علي عبد الله صالح، قام باللعب على كل الخيوط دفعةً واحدة؛ ففي عام 2011 وعندما تعرض الوطن العربي لهزات الربيع العربي، وعقب انشقاق الجيش والشرطة بعد الهجمات على المتظاهرين، كانت القاعدة هي ذراع صالح الأمني؛ إذ اجتاح مقاتلي القاعدة عدة مدن في جنوب اليمن، واستولوا على المراكز السكانية الرئيسة في محافظة أبين، وهو الأمر الذي أشار دبلوماسي عربي إلى أن صالح لم يقاومه، ولم يكن على استعداد لبذل أي جهد للتصدي له ظنًا منه أن القاعدة في هذا الوقت الحرج هي عامل جذب قوي، للتضامن الغربي مع نظامه.
بعد أن تخلي صالح عن السلطة عام 2012، وتولي الرئيس الحالي لليمن عبد ربه منصور هادي، قام صالح باستخدام حلفائه القدامى المتمثلين في القاعدة مرةً أخرى، وذلك بهدف إضعاف الرئيس هادي، والعودة مرة أخرى لمركز الأحداث، فعلي الرغم من أنه في عام 2014 أعلن الرئيس أوباما قصة نجاح بلاده في مكافحة الإرهاب، والتي يمكن أن يتخذها البعض نموذجًا في الصراعات القادمة، لكن الأحداث الأخيرة في اليمن، واليمنيون أنفسهم يروون قصة مختلفة تمامًا عن إخفاقات الإدارات الأمريكية المتعاقبة في فهم هذا التنظيم التابع للقاعدة بشكلٍ صحيح، ونتيجة لذلك لم ينجحوا في احتواء التهديد الذي يشكله.
كان التحدي الأول الذي واجهته الولايات المتحدة في حربها ضد القاعدة في اليمن، هو وجود حليف لا يمكن الاعتماد عليه، وذلك من خلال اعتمادها على الحكومة اليمنية المتمثلة في صالح، والتي كانت بحسب التقارير غير ملتزمة بمحاربة التنظيم في شبه جزيرة العرب، كما تشير تصريحاتها الرسمية.
وفي نوفمبر (تشرين الثاني)، من عام 2014 جرى تفويض لجنة تابعة للأمم المتحدة لفرض العقوبات في اليمن على الرئيس السابق على عبد الله صالح ومواليه، فمنعوا من السفر وتجميد أصول هؤلاء، وحظرت التعامل معهم. جاء ذلك عقب تقرير لجنة الخبراء، والتي تلقت ادعاءات بأن صالح نفسه كان يستخدم القاعدة في شبه الجزيرة العربية، عقب ثورات الربيع العربي.
جاء في التقرير أن صالح قد عهد إليهم القيام بمجموعة من الإغتيالات السياسية، وهجماتٍ ضد منشآت عسكرية، وذلك بهدف إضعاف الرئيس عبد ربه منصور هادي من خلال خلق حالة من الاستياء ضده، داخل الجيش وبين القطاع الأوسع من اليمنيين.
كان الاتهام بالغًا ضد الرجل الذي تلقت حكومته على مدار أعوام أموالًا هائلة من الخزانة الأمريكية، وتلقى رجاله التدريب الأمريكي منذ أحداث 11 سبتمبر، وحتى نهاية ولايته لليمن، للمساعدة في حربه ضد الإرهاب، وتحويل المناطق الداخلية غير خاضعة للحكم في بلاده إلى جبهات أمامية ضد القاعدة.