عمار الاشول
تموت الصحافة الورقية كل يوم. في كل لحظة تلفظ صحيفة ما أنفاسها الأخيرة، وفي كل وفاة يسأل الصحافي نفسه، لِمَ ضيّعت كل هذه السنوات من عمري في دراسة مهنة المتاعب؟
قبل أقل من عام، ماتت أم الصحف «السفير»، وماتت معها أحلام نخبة من روّاد الصحافة. «السفير» التي شهدت الحرب الأهلية اللبنانية، وسجّلت تاريخها بإنصاف، كما أنها كانت الصوت الصادح والمقاوم بكل الحروب التي خاضها لبنان مع الكيان الصهيوني. صوت لبنان في الوطن العربي، وصوت الوطن العربي في لبنان، لسان حال المقاومة الفلسطينية، هذه الصحيفة صمدت أمام أعتى الحروب الأهلية والخارجية، لكنها لم تستطع مقاومة التكنولوجيا.
تعيش الصحافة الورقية مراحلها الأخيرة، وتولد في المقابل الصحافة الرقمية، ومابين الورقية والرقمية تختلف الآراء. الصحافي بطبعه يحب رائحة الورق، وتتملّكه الدهشة حينما يجد رأيه مكتوب بحبر، وصورته على عمود. صحيح أن الفضاء الرقمي سريع في التواصل، لكنه أيضاً سريع في التلاشي، ناهيك عن تغليب الشعبويات فيه عن الأبجديات.
يقول أحدهم، كم أتمنى لو أنني ولدتُ في خمسينيات القرن الماضي، أيام عز الصحافة الورقية وازدهار، كي أكتب عن ثورتي 26 سبتمبر و 14 أكتوبر، وأؤرّخ لهما في صحيفتي «الثورة» و«الجمهورية»، ولو كان الحلم بيدي، لتمنيتُ بأن أكتب وأحرّر في صحيفة «صوت اليمن»، التي صدرت من عدن في 13 أكتوبر من العام 1946، وترأس تحريرها أحمد محمد نعمان، وكتب فيها أبو الأحرار محمد محمود الزبيري.
يعيش الصحافي اليمني هذه الأيام في قعر المتاعب؛ متاعب المهنة، والشعبوية، حيث باتت تهدده الأحداث الراهنة، وتعيقه الشعبوية التي خلفتها التكنولوجيا في كل اتجاه. فسواء في الشمال أو في الجنوب، يتعرض الصحفيين لشتى أنواع المخاطر. القتل بالسّم كما حدث لمحمد العبسي، وكسر الأطراف بالأعصي والأعيرة النارية كما حصل لنبيل سبيع، ونائف حسان، إضافة إلى الإعتقالات والإخفاء القسري، التي كان آخرها اعتقال الصحافي عوض كشميم، واستجواب فتحي بن لزرق.
يقول أحد أساتذة الصحافة «استمروا، ليس عليكم أن تموتوا مع الصحافة الورقية، بل أن تحيوا لتحيوا تراثها»، مضيفاً «الصحافة الورقية على سرير الإنعاش، لكن الصحافي في هندول الطفولة». بينما يرى آخر أن «الصحافة الحقّة هي في الرسالة التي نؤديها، بغض النظر عن الوسيلة»، مشدداً «كن صاحب رسالة بغض النظر عن وسيلتك».
حنين الصحافي في هذه الأيام، كما قال محمود ياسين، أن يقابل مع صالح الصماد، دون أن توجه له تهمة الخيانة، وأن يتصل بعارف جامل، دون التوجّس بما قد يفعله أبو حمزة، يضيف ياسين «بودي لو أذهب إلى مأرب بوصفي صحافياً في بلاده، وليس منفياً جديداً داخل الوطن، أن أزور سوقطرى دون تأشيرة إماراتية، أن أقابل الزبيدي في عدن لأسأله عن إرادة الجنوب وما إن كان لا يزال يريد أن يكون جنوباً أم إنه يفضّل الإنتماء لإمارات بلا جهات ولا وعي بالمكان، وأعود بعدها للزبيدي لأسأله… جنوباً لليمن أم رصيف حاويات للإمارات، وفي النهاية إلى صنعاء، إلى نقابة الصحفيين، أخبر تفاصيل رحلتي للزملاء وليس للحوثي الذي عيّن نفسه نقيباً بوضع اليد».
هذا ياسين، أحد أهم روّاد الصحافة في اليمن، يبدو مشتاقاً لممارسة مهنته بحرية، لذلك نجده يتمنى ويحلم في بلاد لم يعد فيها سوى الأحلام والتمنّي، ومثله الكثير من الكُتّاب والصحافيين، الذين تعثروا وتاهوا بفعل الأحداث في اليمن، التي تعيش فيه الصحافتان الورقية والرقمية أسوأ مراحلهما، في الأولى احتكار، والثانية تواجه الحجب.