الجديد برس | متابعات
كشفت صحيفة نيويورك تايمز فصلاً جديداً من فصول ما جرى قبل شهور داخل فندق الريتز كارلتون في الرياض، حيث أكدت الصحيفة الأميركية أن رجال الأعمال الذين كان يُنظَر إليهم من قبل على أنهم عمالقة الاقتصاد السعودي يرتدون الآن أساور في الكاحل لتتبُّع تحركاتهم.
وقالت الصحيفة إن الأمراء الذين قادوا من قبل قوات عسكرية وظهروا في المجلات اللامعة يخضعون حالياً للمراقبة من جانب حراسٍ لا يأتمرون بأمرهم. ولا يمكن للأسر التي فرَّت على متن طائرات خاصة الوصول إلى حساباتها المصرفية. وحتى الزوجات والأطفال ممنوعون من السفر.
وقد احتجزت الحكومة السعودية المئات من رجال الأعمال المؤثرين -كثير منهم من أفراد العائلة المالكة- بالفندق الشهير في حملةٍ أطلقت عليها تسمية حملة لمكافحة الفساد.
ومنذ ذلك الحين، أُطلِق سراح معظمهم، لكنَّهم بالكاد أحرار. فبدلاً من منحهم حريتهم كاملةً، يعيش هذا القسم الكبير من ذوي النفوذ في السعودية في حالةٍ من الخوف والريبة.
فحسب قول الشهود، تعرَّض الكثير منهم لأساليب الإكراه والإيذاء الجسدي أثناء أشهر الاحتجاز. وفي الأيام الأولى من حملة القمع، نُقِل ما لا يقل عن 17 معتقلاً إلى المستشفى إثر تعرضهم للاعتداء الجسدي، وتوفي أحدهم في وقتٍ لاحق في الحجز برقبةٍ بدت ملتوية، وجسم منتفخ بشدة، وعلامات أخرى تشير إلى تعرّضه للإيذاء الجسدي، وذلك وفقاً لشخص رأى الجثة.
في رسالة بريدٍ إلكتروني إلى صحيفة نيويورك تايمز الأميركية يوم الأحد 11 مارس/آذار، نفت الحكومة اتهامات الإساءة الجسدية ووصفتها بأنَّها “غير صحيحة على الإطلاق”.
دخل محتجزٌ سابق اضطر إلى ارتداء جهاز تتبع في حالة اكتئابٍ وهو يراقب أعماله تنهار، وقال أحد أقاربه: “تخلينا عن كل شيء. حتى المنزل الذي أعيش فيه الآن لستُ متأكداً إن كان لا يزال ملكاً لي”.
ظل الفساد مُستوطِناً في المملكة فترةٍ طويلة، وافترض الكثيرون على نطاقٍ واسع أنَّ عديداً من المعتقلين قد سرقوا من خزائن الدولة. لكنَّ الحكومة، مُتحجِّجةً بقوانين الخصوصية، رفضت تحديد التهم الموجّهة ضد الأفراد لتوضيح مَنْ أُدِين أو مَنْ اتضحت براءته حتى بعد إطلاق سراحهم، ما يجعل من المستحيل معرفة إلى أي مدى كان الدافع وراء الحملة هو تصفية الحسابات الشخصية.
ووفقاً لثلاثة من مساعدي عائلة الملك عبدالله، يبدو أنَّ الحملة كانت مدفوعة جزئياً بالخصومات العائلية؛ لأنَّ ولي العهد الأمير محمد يضغط على أبناء الملك الراحل عبدالله، لإعادة مليارات الدولارات التي يعتبرونها ميراثاً لهم.
ومع أنَّ الحكومة قالت إنَّ الحملة ستزيد من مقدار الشفافية، إلا أنَّها أجرتها سراً، ونفَّذت المعاملات المالية بطرقٍ تُجنِّبها الإفشاء العلني، وفرضت حظر السفر وهدَّدت المعتقلين بتعرُّضهم لعقوباتٍ شديدة إذا تحدثوا عما جرى لهم بحُريةٍ.
اشترط معظم الأشخاص ممن أجريت مقابلات معهم في هذا المقال عدم الكشف عن هويتهم لتجنب خطر الظهور بمظهر المنتقدين لولي العهد محمد بن سلمان.
سجن 5 نجوم
قبل فجر يوم 4 نوفمبر/تشرين الثاني، كان الأمير الوليد بن طلال، أشهر مستثمر سعودي وأحد أغنى رجال العالم، نائماً في مخيم صحراوي حيث اعتاد الذهاب للاستمتاع بنمط الحياة البسيطة، عندما استدعاه الديوان الملكي لرؤية الملك سلمان، بحسب اثنين مقربين لعائلته. كان طلباً غريباً في توقيتٍ كهذا، لكن لا يسع المرء أن يتجاهل رغبات الملك، لذا عاد إلى الرياض، حيث طُرِد حراسه، وسُحِبت منه هواتفه، واحتُجز في فندق الريتز.
وأثناء الساعات الأربع والعشرين التي تلت ذلك، تلقى أكثر من 200 شخص غيره استدعاءات مماثلة، بمن فيهم بعض أغنى وأقوى الرجال في المملكة. وكان من بينهم الأمير متعب بن عبدالله نجل الملك عبدالله وقائد أحد أجهزة الأمن الرئيسية الثلاثة في البلاد؛ وفواز الحكير الذي يمتلك الامتياز الحصري لشركة “زارا جروب” وشركة “غاب” في المملكة إلى جانب عشرات المتاجر الأخرى؛ وصالح كامل رجل الأعمال المُسن من مدينة جدة المُطِلّة على البحر الأحمر، والعديد من الأمراء ورجال الأعمال والمسؤولين الحكوميين السابقين.
انتهى المطاف بغالبيتهم في فندق ريتز كارلتون، في غرف أُزِيلت منها أبواب الدُش الزجاجية وقضبان الستائر لمنع أي محاولاتٍ للانتحار. كان بإمكانهم مشاهدة التلفزيون وطلب خدمة الغرف، لكن لم يكن متاحاً لهم استخدام الإنترنت أو الهواتف.
وخارج الفندق، أصيب أقاربهم بالذعر، ووضع مديرو شركاتهم الكبرى خطط طوارئ للحفاظ على سير العمليات، غير متأكدين من طول مدة غياب رؤسائهم.
في نهاية المطاف، سُمِح للمحتجزين بطمأنة عائلاتهم في مكالماتٍ قصيرة خاضعة للمراقبة.
مُنِع الكثيرون منهم من الاتصال بمحاميهم، لكنَّ الأمير الوليد كان يتحدث أسبوعياً مع بعض مديريه، على حد قول شركائه. وبقي بعيداً عن الأنظار حتى يناير/كانون الثاني، عندما سمح الديوان الملكي لصحفي من وكالة رويترز بمقابلته في فندق ريتز للرد على تقرير أجرته هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) أفاد بأنَّه كان مُحتَجزاً في غرفة تشبه الزنازين.
ورفض ممثلو شركة الأمير الوليد، المملكة القابضة، إتاحة جزء من وقته لإجراء مقابلة معه، لكنَّ اثنين من معاوني أسرته قالا إنَّه تحت حراسة مسلحة، وقد روى الأمير لعدد قليل جداً من الناس، أو ربما حتى لم يروِ لأحدٍ قط، ما حدث له في ريتز كارلتون.
قال أحد معاونيه إنَّها ” تجربة يريد أن ينساها”.
تقارير بالتعذيب
وفقاً لطبيب ومسؤول أميركي، في الأيام الأولى من الاعتقالات في فندق ريتز، احتاج نحو 17 معتقلاً إلى علاجٍ طبي نظراً لسوء المعاملة التي تعرضوا لها من جانب مُحتجِزيهم.
وقال أقارب بعض المحتجزين إنَّهم حُرِموا من النوم، وإنَّهم تعرضوا لمعاملةٍ قاسية وغُطّيَت رؤوسهم أثناء استجوابهم، في محاولةٍ من الحكومة للضغط عليهم من أجل التنازل عن أصولهم الكبيرة.
ومع أنَّ الدلائل على مثل هذه الانتهاكات كانت تتسرب ببطء، قال مسؤولان من حكومتين غربيتين إنَّهما يعتبران التقارير ذات مصداقية.
تضمَّنت إحدى الحالات مسؤولاً عسكرياً سعودياً توفي في الحجز، وقال أحد الأشخاص الذين رأوا جثة الضابط، اللواء علي القحطاني، إنَّ رقبته كانت ملتوية بصورةٍ غير طبيعية كما لو كانت مكسورة، وإنَّ الكدمات والانتفاخات كانت منتشرة في أنحاء جسده، بينما غطت جلده آثار تعرضه للإساءة الجسدية.
وطبقاً لشهادة أحد الأطباء وشخصان آخران اطلعا على حالة الجثة، كانت الجثة تحمل آثار حروق تجعل الأمر يبدو وكأنَّه تعرض لصدماتٍ كهربائية.
وفي ردّه عبر البريد الإلكتروني على أسئلة حول اللواء القحطاني، قال مسؤول في السفارة السعودية بواشنطن إنَّ “جميع مزاعم سوء المعاملة والتعذيب التي تعرض لها المحتحزون أثناء التحقيق معهم ضمن إجراءات مكافحة الفساد غير صحيحة على الإطلاق”.
وأضاف المسؤول أنَّ المعتقلين أُتيحت لهم “الحرية الكاملة” لتعيين مستشارٍ قانوني وتلقي الرعاية الطبية.
ولم يكن القحطاني، وهو ضابط في الحرس الوطني السعودي كان يُعتَقد أنَّه في الستين من عمره، ثرياً بذاته، ما يثير الشكوك حول الهدف وراء احتجازه باعتباره هدفاً رئيسياً في حملة تطهير الفساد. لكنَّه كان أحد كبار مساعدي الأمير تركي بن عبدالله، نجل الملك الراحل عبدالله وحاكم الرياض السابق، وربما كان المحققون يضغطون على اللواء للحصول على معلومات حول رئيسه، الأمير تركي. إذ يُنظر إلى أفراد عائلة الملك عبدالله باعتبارهم خصوماً لوليّ العهد ووالده الملك سلمان.
وفي نوفمبر/تشرين الثاني، نُقِل اللواء القحطاني إلى مستشفى لصفوة السعوديين بالقرب من الفندق لإجراء فحوص بالأشعة وعلاجات أخرى، حيث ظهرت عليه علامات تعرّضه للضرب، وفقاً لطبيب اطّلع على حالته.
لكنَّه أُعيد إلى الفندق لإجراء مزيد من الاستجوابات، ثُمَّ أُعلِن خبر وفاته في أحد المستشفيات العسكرية.
لم تقدم المملكة قط أي تفسيرٍ علني لموت اللواء.
وقال العديد من الأشخاص الذين تحدثوا إلى أفراد عائلة القحطاني وعبدالله إنَّهم فضّلوا التزام الصمت بخصوص موت اللواء خوفاً من تعرضهم لمزيدٍ من الإجراءات العقابية أو الانتقامية.
وعبَّر أحد أبناء الملك الراحل، الأمير مشعل بن عبدالله، عن امتعاضه من المعاملة التي تعرّض لها القحطاني لدائرةٍ من الأصدقاء، وبعد ذلك مباشرةً اعتُقِل الأمير مشعل واحتُجِز في فندق ريتز.
تنافس على المُلك
استهدفت الحملة ثروة ذرية الملك السعودي السابق عبدالله، إذ كانوا يُعتَبَرون منافسين محتملين على العرش السعودي، ومنذ أن صار سلمان ملكاً عام 2015، ركَّز مع ابنه ولي العهد على تهميشهم.
إذ عُزِل الأمير تركي -أحد أبناء الملك عبدالله- في 2015 من منصب أمير منطقة الرياض، بينما أُقيل شقيقه الأمير متعب من منصب وزير الحرس الوطني في نوفمبر/تشرين الثاني من العام الماضي. ثم اعتُقِلا مع عددٍ من أشقائهما في فندق الريتز كارلتون.
وقال ثلاثةٌ من أفراد عائلة الملك السابق عبدالله إنَّه ترك عشرات المليارات من الدولارات في مؤسسة عبدالله التي كانت تهدف إلى تمويل مشروعات باسم الملك بينما تُعَد بمثابة حصَّالةٍ أيضاً لورثته.
وبعد وفاته عام 2015، دفعت المؤسسة مليارات الدولارات إلى أطفاله الذين يتخطى عددهم 30 طفلاً، بواقع نحو 340 مليون دولار لكل ابن، و200 مليون دولار لكل ابنة.
وقال أشخاص مُطَّلعون على المفاوضات إنَّ ابن سلمان يسعى لاسترداد هذه الأموال التي يعتقد أنَّها أُخذِت بطريقةٍ غير شرعية من مؤسسةٍ خيرية. بيد أنَّ أبناء الملك عبدالله يعتبرونها ميراثهم.
ويُعَد مدير المؤسسة هو الأمير تركي بينما كان مساعده هو اللواء القحطاني الذي مات في الحجز. ومازال الأمير تركي معتقلاً، ومعظم أخوته وأسرهم ممنوعون من السفر خارج المملكة. بينما هناك بعض أخوته الآخرين في لندن وأماكن أخرى خائفون من العودة إلى المملكة التي كان والدهم يحكمها مؤخراً.
وقال أحد أقرباء أسرة عبدالله واثنين من أصدقائهم إنَّ أبناءه غير مسموحٍ لهم إلا بسحب 26 ألف دولار أسبوعياً من حساباتهم لتغطية نفقاتهم.
وقالت الحكومة في يناير/كانون الثاني إن 56 شخصاً ما زالوا محتجزين بسبب “قضايا جنائية معلقة” وسيُحاكمون. وتقول الحكومة إن أي شخص فضَّل إنكار اتهامات الفساد في المحكمة، فهذا من حقه.
أما الذين أُطلِق سراحهم فقالوا إنَّهم ليسوا أحراراً حقاً. إذ يحاولون تفادي جذب الانتباه إليهم في انتظار بدء الحكومة في مصادرة الأصول التي تنازلوا عنها في فندق الريتز كارلتون.
وذلك فضلاً عن أنَّ معظمهم ممنوعون من السفر ولا يمكنهم استخدام حساباتهم المالية. ويعتقد بعض المعتقلين أنَّ الأساور التي يرتدونها في كاحلهم وتتعقب تحركاتهم تنقل محادثاتهم أيضاً. ويغطي البعض هذه الأساور بالوسائد أو يُشغِّلون موسيقى صاخبة لمنع التنصُّت المحتمل، وفقاً لما ذكره بعض الأشخاص الذين زاروهم.
وقال أحد أقرباء محتجز أُطلِق سراحه: “يريدون الضغط عليك وعلى أبنائك حتى تضطر إلى بيع أصولك من أجل السماح لك بالسفر مرةً أخرى. فالوضع خارج الريتز كارلتون هو نفس الوضع داخله”.
لكنَّهم لا يملكون سوى ملاذٍ صغير؛ لأنَّ ما تبقى من حياتهم وثرواتهم ورفاهية أسرهم يعتمد على مكانتهم في السعودية.
وقال أحد أصدقاء محتجزٍ سابق: “لا أحد يستطيع التحدُّث عمَّا حدث في الريتز كارلتون. ففي نهاية المطاف، سيضطرون جميعاً إلى العيش داخل السعودية”.