الجديد برس – مقالات
ما حدث ويحدث في جنوب السودان منذ انفصاله عن شماله يعد درساً بليغاً لأولئك الحالمين بالمناصب والزعامات من بوابة الانفصال والذين لا يكفون عن العمل ليل نهار لتقسيم بلدانهم والعبث بوحدتها الوطنية (الجغرافيا والتاريخ). ويمكن القول إن ما كان عليه حال جنوب السودان قبل الانفصال نعمةٌ وخير مقارنة بما يحدث الآن من حروب واقتتال ومجاعة، وغياب تام لمعنى الوطن والدولة.
قبل الانفصال كان المواطن السوداني يتنقل بحرية وأمان من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال، ومن أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب. وكان السودان كبيراً بمساحته الجغرافية، وكبيراً بسكانه وأحلامه. كانت هناك مشكلات وتحديات سياسية وتاريخية – لا شك في ذلك – ومعاناة لكنها محتملة، وكان دعاة الانفصال هم وراء المشكلات ووراء تلك المعاناة. وكانت هناك أخطاء من جانب السلطة المركزية لكن النضال السياسي كان كفيلاً بإصلاحها والاستمرار في مقاومتها.
ويتذكر المتابعون لقضايا هذا القطر الشقيق أن المعارضة الواعية في الجنوب كانت تقوم على مطالب تدعو إلى احترام المواطنة والالتزام بمبادئ الحرية والعدالة الاجتماعية، وقد لقيت هذه المطالب استجابة واستحساناً من جانب المعارضة الشمالية، وكان يمكن المضي في هذا السبيل إلى أن تتحقق المطالب بدلاً عن التفريط بالوحدة والإصغاء للقوى الخارجية التي تولت التحريض على الانفصال وقدمت الكثير من الوعود السرابية، وتكاد الآن تعلن براءتها من التحريض بعد أن رمت بوعودها عرض الحائط في وقت يعاني فيه الشعب في جنوب السودان أهوالاً وحروباً بين المكونات الوطنية ويقدّم من الضحايا ما لم يقدمه في تاريخه الطويل، وهنا يأتي الدرس وتتجلى مخاطر الطموحات الزائفة والمغامرات الخاسرة.
واللغة السائدة الآن لدى العقلاء من الأشقاء في الشمال والجنوب على السواء تأتي مفعمةً بالندم والقول بأن المصلحة الوطنية والمصلحة المباشرة للناس كانت تقتضي الحفاظ على السودان الواحد وعدم الاستجابة للنوازع التفتيتية لا لأنها تتنافى مع أبسط قواعد المواطنة فحسب، وإنما لأن التفتت يدعو إلى مزيد من التفتت وتحويل الوطن الواحد إلى بؤر تأكل بعضها بعضاً، فضلاً عن كونه تبديد للطاقات والثروات في وقت يتعرض فيه العالم للمزيد من الكوارث الطبيعية وتبدو الأرض عاجزة عن توفير الطعام الكافي لمن على ظهرها، وتتسرب إلى وسائل الإعلام بعض المعلومات عن أهم المصالح التي تسعى إليها القوى المشبوهة واللاإنسانية في إغراق الشعوب المتخلفة في النزاعات والحروب كوسيلة ناجحة للانقراض لتخلو الأرض لهذه القوى الضالعة في تصدير الخلافات وتخريب الأوطان.
وما يهمنا في الوطن العربي من درس جنوب السودان وما يعانيه ذلك الجزء من كوارث سياسية واجتماعية واقتصادية أن نستوعب الدرس جيداً، ونقول للمغامرين والساعين إلى تفتيت أوطانهم وتدمير وحدتها أن لا شيء ينتظرهم من مناصب وزعامات يحلمون بها أو توحي بها لهم قوى من خارج هذا الوطن، وما ينتظرهم سوى الخراب والدمار والاقتتال، وأن بعض أقطارنا عانت ولا تزال تعاني من هذا الثلاثي المرعب (الخراب والدمار والاقتتال) ما يكفي، وأن مواطنينا يحلمون بالرغيف وقليل من الأمن وشيء من الماء النظيف والدواء الذي يخفف من آلام المرضى.