الجديد برس : رأي
أحمد الحبيشي
من أروع الدروس التي تعلمتها على يد المفكر اليساري الراحل عبدالله عبدالرزّاق باذيب، أن الدين يعتبر عنواناً دائماً للهوية والحرية، ويجب أن يبقى على الدوام منطقة آمنة لصالح الإنسان.
معنى ذلك أن الإسلام هو المنطقة الآمنة التي يتوجب على المسلمين حمايتها من شرور ومخاطر التجديف والتحريف والتكفير، الأمر الذي يستدعي مقاربة مفهوم الإسلام للحرية، خاصة لو قمنا بعمل مقارنة بينها وبين نظرة الحضارة الغربية وبعض الحضارات الشرقية القديمة، حيث يتميز المفهوم الإسلامي للحرية بأنها ضرورة من الضرورات الإنسانية، وفريضة إلهية وتكليف شرعي واجب، وليست مجرد (حق) من الحقوق يجوز لصاحبه أن يتنازل عنه إن هو أراد.
من نافل القول أن مقام الحرية يبلغ في الأهمية وسلم الأولويات مقام الحياة، التي هي نقطة البدء والمنتهى، وجماع علاقة الإنسان بوجوده في هذه الدنيا الفانية.
لقد اعتبر الإسلام الرق بمثابة الموت، واعتبر الحرية إحياءً وحياةً. فعتق الرقبة، أي تحرير العبد، هو إخراج له من الموت إلى الحياة. وهذا هو الذي جعل عتق الرقبة (بمعنى إحيائها) كفارةً للقتل الخطأ الذي أخرج به القاتل نفساً من إطار الأحياء إلى عداد الموتى، فكان عليه، كفارة عن ذلك، أن يعيد الحياة إلى الرقيق بالعتق والتحرير.
{ومن قتل مؤمناً خطأً فتحرير رقبة مؤمنة} [النساء:92].
وبعبارة أحد مفسّري القرآن الكريم، وهو الإمام النسفي فإن القاتل (لما أخرج نفساً مؤمنة من جملة الأحياء، لزمه أن يدخل نفساً مثلها في جملة الأحرار، لأن إطلاقها من قيد الرق كإحيائها، من قبل أن الرقيق ملحق بالأموات، إذ الرق أثر من آثار الكفر، والكفر موت حكماً). وفي الآية (122) من سورة الأنعام: {أومن كان ميتاً فأحييناه}.
والثابت أن موقف الإسلام من الحرية وعداءه للعبودية ليس مجرد موقف فكري (نظري)، وإنما تجسد على أرض الواقع كتجربة (إصلاحية – ثورية) شاملة غيرت المجتمع الذي ظهر فيه تغييراً جذرياً، وذلك هو الذي يُحسب للإسلام، بينما لا تُحسب عليه الردة التي حدثت عندما استشرى الاسترقاق في فترات لاحقة من التاريخ.
لقد ظهر الإسلام في وقت كان فيه نظام الرق، سواء في شبه الجزيرة العربية أو في ما وراءها، نظاماً عاماً وراسخاً وبالغ القسوة ويمثل ركيزة من ركائز النظامين الاقتصادي والاجتماعي لعصور الفتوحات والحروب الدينية واقتصاد الخراج، وفي كل الحضارات آنذاك. حيث يرى بعض الفلاسفة والمؤرخون أن الرقيق كان العملة الدولية للاقتصاد في تلك العصور، وقد بلغ من قسوتها وشيوعها ما صنعته القيصرية الرومانية، والكسروية الفارسية، وهما القوى العظمى يومئذٍ، من تحويل كل شعوب المستعمرات إلى رقيق وبرابرة وأقنان.
فلما جاء الإسلام، وقامت دولته في المدينة المنورة، حرّم وجفّف كل المنابع والروافد التي تمد (نهر الرقيق) بالجديد، ووسع المصبّات التي تجفف هذا النهر، وذلك عندما حبب إلى الناس عتق الأرقاء، بل جعله مصرفاً من مصارف الأموال الإسلامية العامة وصدقات المسلمين وزكواتهم، وعندما جعل تحرير الرقبة كفارة العديد من الأخطاء والآثام، وعندما سن شرائع المساواة بين الرقيق ومالكه وسيده في المطعم والمشرب والملبس، ودعا إلى حسن معاملته والتخفيف عنه في الأعمال… حتى لقد أصبح الاسترقاق في ظل هذه التشريعات عبئاً اقتصادياً يزهد فيه الراغبون في الثراء.
وعلى عكس ما كان سائداً في الدول الأخرى، وقف الإسلام من الاسترقاق عند أسرى الحرب المشروعة، ليبادلهم مع أسرى المسلمين، بل وشرع لهذه الحالات المحدودة العدد (المن والفداء): {فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما مناً بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها}.
هكذا نرى أن النظرة الإسلامية للحرية ربطت قيمة الحرية بالإنسان، وليس بالإنسان المسلم وحده. وإذا كان الدين والتدين هو أغلى وأول ما يميز الإنسان، فيمكن القول بأن تقرير الإسلام لحرية الضمير في الاعتقاد الديني شاهد على تقديس حرية الإنسان في كل الميادين، فهو حر حتى في أن يكفر، إذا كان الكفر هو خياره واختياره: {لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي} [البقرة:256]، {ولو شاء ربك لآمن من في الأرض جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين} [يونس:99].
لقد أراد الله للناس الهدى والإيمان، لكنه سبحانه جعل لهم، مع هذه الإرادة الإلهية، الحرية والتخيير والتمكين، فكان انتصار الإسلام للحرية الإنسانية في كل الميادين.
النظرة الإسلامية تحرر الإنسان من كل الطواغيت، فشهادة التوحيد (لا إله إلا الله) هي جوهر التدين بالإسلام، وهي ثورة لتحرير الإنسان من العبودية وكل الطواغيت، ومن كل الأغيار، فإفراد الله بالألوهية والعبادة هو جوهر تحرير الإنسان من العبودية لغير الله؛ إنها العبودية للذات المنزهة عن المادة، ومن ثم فإنها هي المحققة لتحرير الإنسان من كل ألوان الطواغيت المادية التي تستلب منه الإرادة والحرية والاختيار.
عندما يدعو الإسلام إلى الاقتصاد في الاقتناء والامتلاك، وتهذيب حياة الإنسان من شهوات التملك وغرائزه، والوقوف به عند حدود (الاستخلاف) و(الانتفاع) لا (ملكية الرقبة) و(الاحتكار)، فإن الإسلام بصنيعه هذا إنما ينجز إنجازاً عظيماً على درب تحرير الإنسان وانعتاقه من العبودية للأشياء التي يحسبها مملوكة له، في حين أنها مملوكة لله عز وجل.
ولا أبالغ حين أقول إن للقرآن مذهباً متميزاً في موضوع الحرية الإنسانية وآفاقها وحدودها، فالإنسان خليفة لله سبحانه في عمارة الوجود، ومن ثم فإن حريته هي حرية الخليفة، وليست حرية سيد هذا الوجود.
نعم إنه سيد في هذا الوجود، وليس سيداً لهذا الوجود. وبعبارة (الأستاذ) فالإنسان عبد لله وحده، وسيد لكل شيء بعده (الشيخ الإمام محمد عبده).
فالحق تبارك وتعالى سخّر للإنسان ظواهر الطبيعة وقواها، ليتحرر من العبودية لها، وأقام إخاءً بين قوى الإنسان وقوى الطبيعة، لتمتزج حريته بهذا التسخير المتبادل، فهو أخ للطبيعة، بين قواه وقواها تسخير متبادل، هو أشبه ما يكون بالارتفاق، كل مرفق مسخر للمرفق الآخر، الأمر الذي يجعل الحرية الإنسانية حرية المخلوق المسؤول، لا حرية الذي لا يُسأل عما يفعل.
النظرة الإسلامية للحرية تقوم على قيمة الحرية في الممارسة والتطبيق، وذلك عندما حرّر الإنسان من أغلال الجاهلية وظلمها وظلماتها، وصولاً إلى إعادة صياغة هذا الإنسان بما يحرر ملكاته وطاقاته، حتى لقد أصبح (العالم الأكبر) رغم أنه ماديٌ (جرماً صغيراً).
لقد تمت تربية (الجيل القرآني الفريد) الذي صنعه الرسول صلى الله عليه وسلم على عينه في (دار الأرقم بن أبي الأرقم) التي كانت أولى مؤسسات الصناعة الثقيلة التي أقامها الإسلام لإعادة صياغة هذا الإنسان، أي أن منهاج الإسلام في الحرية والتحرير قد وضع (التربية) قبل (السياسة)، و(الأمة) قبل (الدولة)؛ لأن الأصول لا بد أن تسبق الفروع.