المقالات

اليمن، الفنتوم والهدهد

الجديد برس : رأي

د / منصر هذيلي – كاتب تونسي

الجرأة اليمنية على آل سعود غير مسبوقة. لم تكن جرأة كهذه لا من عبد الناصر ولا من صدّام ولا من غيرهما رغم تأزّم علاقة السعوديين بمحطّات كثيرة مع أكثر من طرف عربي في السابق. علاقة العرب الرسميين بالسعوديين في العام بين خوف وطمع. يكرهونهم ويتندرون بحمقهم وهوانهم ولكن يحذرونهم وينافقونهم ولا يبدون لهم ما قد يثيرهم ويغضبهم. في مستوى الشعوب العربية الأمر يختلف تماما وبنسب مرعبة للسعوديين. هنا طاقة كره للحكم السعودي بين الناس تعادل كرههم للصهاينة وفي المتداول الشائع على نطاق أكثر من واسع أنّ الصهيونية والالسعودية صنوان. هم صهاينة عرب بأسهم على العرب أنكى من بأس الصهاينة اليهود. هذا الوعي تشكّل عبر العقود وتثبّت بالتجربة وكلّ محاولات طمره أو طمسه فشلت. الآن صارت الامور مكشوفة فالسعودية أصبحت تسلك بما يجذّر قناعات النّاس أكثر. آل سعود يعلنون اليوم عن حلف مصيري يجمعهم بإسرائيل ويهشّون بكلّ وسائلهم لجلب العرب إلى مربع الخيانة والعمالة.

قد يتحسّر اليمنيون من ضعف السند العربي لهم وهذه مسألة فيها نظر. اذا كان القصد عرب رسميون فالانتظار في غير محلّه بل هو غير منطقي. اذا كان القصد شعوب العرب فمستوى التعاطف العربي الشعبي مع اليمن قياسي. قد لا يرى اليمنيون تجلّيا لذلك ولكن الكامن هامّ ومفيد. هل كنّا نرى قبل سنوات قوّة اليمنيين عزما وتصميما وادارة معركة؟ لا. كان كلّ ذلك كامنا. الآن فقط يظهر وعليه فإن الكامن الذي لا تبصره العين سلاح استراتيجي وجب شحذه والرهان عليه. لو علم آل سعود عن الكامن اليمني هل كانوا يقامرون كما قامروا ويتورطون في المقامرة أكثر؟ لا. ما كان منهم ما كان ليكون وكل الخير في ما كان. أصلا، يبرع اليمنيون كلّ مرّة في إخراج الكامن وتكون منهم دائما لا من غيرهم المفاجأة. في الصراع المتكافئ قوّة وعدّة من الضروري توظيف هكذا سلاح.

فعل الكامن بسياق حواسيب هو فعل الفيروس المعطّل للبرمجيات ويُدخل كلّ الشكوك. ألا ترون اذا دخلت ذبابة خيشوم ثور ماذا تفعل فيه؟ قد تضطرّه الى ضرب رأسه على أقرب شجرة فيسيل كلّ دمه والحديث هنا مجاز وقياس. لا قدرة على القوّة المتبجّحة إلا بكيفية كامنة غير محسوبة صادمة. لذلك فإنّ الوضع اليمني يفتح على خير عميم. هو يفتح بالتوازي ومن زاوية نظر أخرى على أكبر الخطر وأعظمه. تقديري أن جرأة اليمنيين على آل سعود أهمّ تطوّر تشهده المنطقة العربية بعد زرع الكيان بها. حتى المحطات التي اصطدم بها العرب بالصهاينة مباشرة تبدو دون هذه الجرأة قيمة وفعلا وتأثيرا. ليست قوّة الصهاينة ذاتية في شيء. مصدر قوّتهم الأساس في ترتيب الوضع العربي المحيط بالشكل الذي نرى اليوم وتشكّل عبر أزمات ومحطّات عديدة منذ بداية الخمسينينيات. بمن ترتّب هذا الوضع الوثير الفاره صهيونيا؟ ترتّب بآل سعود وبهم أيضا ترتّب الانتشار المريح لأساطيل الإستعمار.

ما يتوفر للصهيونية وللاستعمار ببركة آل سعود فوق التصور والحساب. تحشر السعودية أنفها الطويل في كلّ ملفات المنطقة شرقا وغربا وتتصرف بالمال والمخابرات وسوق النفط وفتاوي الدّجل لتسميم عروبة واسلام وصولا الى كندا. ما مصلحتها في ذلك؟ كل المصلحة بين صهيونية واستعمار. الجرأة اليمنية جرأة على هذا الغول. لو تشكّل الشيطان سياسة اليوم بمنطقتنا كيف يتشكّل؟ يتشكّل في هذا الذي نرى ويسعى فيه آل سعود. هذه الجرأة لا تفسّر إلا بمستويات قياسية من العزيمة والايمان. قد تكون عزيمة بلا ايمان فتفتر فالعزيمة تستمدّ من عمق الذات أكثر. الايمان استمداد من أعلى يمنع خلوّ الذات وفراغها. كذلك الايمان من دون عزيمة لا يسلّح الذات ويحجب طاقتها عنها.

تعنيني كثيرا هذه الورشة النفسية المعنوية التي قدّر الله أن تكون بأرض يمن باركه الرسول ودعا له علي وزرع فيه سليمان بسم الله الرحمن الرحيم. ما سيكون من هذه الورشة أهمّ بكثير مما تخبر عنه يوميات المعارك. ستنبثق من مخاضات نفوس اليمنيين رؤى جديدة وسيكون تمحيص ويذهب زبد كثيف ويولد عربي جديد مسخته مرّة بعد مرّة خيانات آل سعود. إنّ الرسالة التي تبلغ العرب من اليمن قريبا بليغة قوية مدوية. صرخة تنهض من في القبور. هذا التطوّر لا يملك له الاستعمار ولا تملك له الصهيونية حلولا وسيكون أضخم محرّك تاريخ. عندما تنهزم السعودية بأرض شام تنجح بنسب محترمة في ترميم نفسها ولكنها عندما تنهزم بيمن فإنها تتهشم واذا تهشّمت تهشّم معها بناء شرّ ضخم ومكر عظيم.

تجوب الفانتوم سماء اليمن طولا وعرضا وتفعل الافاعيل وليس ذلك الا من السّحر. هذه سماء سبق اليها الهدهد ببسم الله الرحمن الرحيم وهذه سرّ عظيم يذيب كلّ نار ويفكّ كلّ سحر. القرآن الذي حوته صدور الصبية المغدورين في صعدة تبخّر بعد القصف وصار هدهديا يطير ومنه وبه تكون كلّ الأفاعيل. المعنى أمضى من كلّ قوّة وليس أقوى من الشهادة معنى. ولتجدنّهم أحرص النّاس على حياة. يا قوّة الله!