الجديد برس : لا ميديا
علي نعمان المقطري
معركة ستالين جراد المصيرية
مدينة بطلة تلتهم ثلاثة ملايين جندي ألماني، وتحسم مصير الحرب ككل.
لماذا أطلق اسم الزعيم ستالين عليها من وقت مبكر قبل الحرب بسنوات؟ لا بد أن في الأمر ما هو خفي، كانت بطرس بورج أو بتروجراد قد أطلق عليها اسم قائد الثورة البلشفية لينين تكريماً له ولدوره في الثورة السوفييتية، أما ستالين فقد كان يمكنه أن يطلق اسمه على مدينة موسكو المدينة الأولى أو الثانية في أهميتها بعد بتروجراد، لكنه لم يفعل فقد أطلقه على مدينة في الشرق الروسي تدعى فولجا جراد، لم تكن تبدو ذات أهمية أكثر من سواها، ليس الأمر من المصادفات، وإنما يعكس حقيقة تبصر استراتيجي مستقبلي، رؤية عميقة للحرب القادمة في خطوطها العامة الكبرى واحتمالاتها في الرهان على العمق الشرقي الآسيوي في الدفاع عن الوطن السوفييتي لدى ستالين وقيادته، ومن وقت مبكر -منذ الثلاثينيات- ظهرت ألمانيا الفاشية كخطر كبيرعلى الروس وأوروبا والعالم، وقد توقعوا الأساسي، وخططوا له جيداً، وسابقوا الزمن. وبالمعنى التقليدي العسكري لم يكن هتلر قد انتهى بعد من حربه الغربية، فلا تزال بريطانيا عدوته الأكبر مستقلة حرة تحتمي خلف المحيط الأطلنطي، وتراهن على الثقل الأمريكي، ولذلك كان ستالين غارقاً في حسابته الكلاسيكية الموضوعية حين فاجأه هتلر بعدوان غادر، وكان قد عقد معه معاهدة عدم اعتداء ليتفرغ لأوروبا الغربية، لذلك اعتقد ستالين أن الوقت مازال معه لمواصلة إعادة تنظيم الجيش السوفييتي وتطهير قيادته، وقد نجحت المكائد الألمانية وتسريباتها في إقناع ستالين بأسطورة خيانة قياده الجيش السوفييتي والتآمر ضده بالتعاون مع الألمان، مما دفعه إلى شن حملة من التصفيات طالت ألمع القادة العسكريين السوفييت بزعامة وزير الدفاع المارشال توخاتشيفيسكي، وأضعف هذا من جاهزية الجيش السوفييتي للحرب والمعركة، وأسهم في تأخير جاهزيته لمواجهة العدوان الألماني، كما أسهم في تلقيه الهزيمة الأولى، وكان هتلر يراقب مجريات ما في روسيا، ويؤثر فيه بمداخلاته الأمنية وتسريباته المخابراتية ومؤامراته الجهنمية، واختار هتلر الوضع والتاريخ غير المتوقع لخصمه، والمفاجأة بالعدوان.
كانت تلك الصدمة ونتائجها ومفاعيلها قد أعادت ستالين إلى وعيه الوطني والقومي الواقعي وتصحيح مساراته، وكان لدى الروس مخزون كبير من الكرامة الوطنية والقدرات والسكان والقوى والثروات، ومن الصبر والاستعداد والتضامن المشترك والوحدة والثقة بالقيادة، بحيث إن هزيمة أو أكثر مهما بلغت درجتها لا تكسر إرادتهم على مواصلة القتال والتحرير.
استهداف المؤخرة
الاستراتيجية للسوفييت
أراد العدو نقل ثقل المعركة من المركز الى المؤخرة الرئيسية للسوفييت، بعد إخفاقه في معركة موسكو العاصمة.
وبعد فشل الحصار للمركز السوفييتي عن قرب، فقد قرر اتباع الحصار للمركز السوفييتي عن بعد.
أهمية المدينة الاستراتيجية
كانت المدينة تقع على نهر الفولجا الشهير الذي يصب في البحر الأسود، وكانت تسيطر على عقدة الطرق الحديدية الكبرى الرابطة روسيا بالشرق السوفييتي الإسلامي الآسيوي، وببحر قزوين وإيران والهند والخليج والجزيرة العربية والسويس وجمهوريات آسيا الوسطى النفطية، وخاصة أذربيجان التي شكلت المصدر الرئيسي لباقي الجمهوريات السوفييتية من مصادر النفط بعد احتلال أوكرانيا وجبال الكرابات النفطية.
وتقع المدينة على مشارف جبال القوقاز الفاصلة بين القارتين، والمنتصبة كخط دفاعي قوي أمام تقدم الألمان من الغرب، وكانت البلاد الآسيوية السوفييتية قد تحولت إلى قواعد صناعية وزراعية ونفطية استراتيجية بعد نقل معظم الصناعات العسكرية إليها بداية الحرب، فأضحت القاعدة الرئيسية الكبرى للدولة السوفييتية والاقتصاد والأمن القومي السوفييتي خلال احتلال الألمان الشطر الغربي منها، وتعريض العاصمة لتهديد الحصار والاجتياح.
وكان هتلر قد أدرك أن هذه المدينة الاستراتيجية الروسية هي الحلقة المركزية في بنية الدفاع الروسي وفي صموده الطويل والعنيد ومصدر ومنبع الإمداد البشري والمادي والطاقي والتمويني والتحالفي العالمي، وآخر شريان يربط السوفييت بالخارج وبالعالم وبالقواعد الداخلية في الشرق، ولذلك قرر توجيه قواته الرئيسية ضد الحلقة المركزية السوفييتية، مقدراً أن سقوطها يؤدي إلى قطع الشرايين الأساسية التي تغذي الجسد الروسي بأسباب الحياة والاستمرار والصمود، ويؤدي إلى انهيار موسكو نفسها، وكان هذا القرار هو مصدر نكسة هتلر الكبرى في الحرب العالمية الثانية، لأن نتيجتها قصمت ظهره، وأبادت وحدها نصف جيوشه الغازية بمعركة واحدة تواصلت عدة أشهر، فأفنت ثلاثة ملايين جندي ألماني بين قتيل وجريح وأسير، وبالمقابل قدم السوفييت تضحيات جمة في المعركة لا تقل عن العدو، غير أنهم كسبوا النصر ودحروا العدو في كل الجبهات الأخرى بعدها، لأنه كان قد تعرض لاختلال في موازين قواته، وقد قررت القيادة السوفييتية أن تجعل من ستالين جراد مقبرة للجيوش الغازية، وأن تحسم مصير الحرب الوطنية ككل.
المارشال جوكوف
يدير المعركة المصيرية
كان المارشال ج. جوكوف هو قائد النصرين الأولين في مدينة لينين جراد ثم في موسكو، وها هو يكلف بقيادة المعركة الكبرى في التاريخ، وقد عين القائد العام للحرب الوطنية.
استراتيجية جوكوف
جمع جوكوف جهود ثلاث جبهات عسكرية إضافية تحيط بستالين جراد من محيطها الغربي والشمالي والوسطي، وأضاف المدينة نفسها التي تشتبك مباشرة بالعدو، وفتح مع العدو في ستالين جراد ثلاث جبهات أخرى قوية شنت الهجمات ضد أجنابه ومؤخراته وخطوط إمداداته بشكل متواصل دون توقف، وتمكنت الجبهات الثلاث من قطع مواصلاته وتطويقه من جهات عديدة، وعزله في ستالين جراد عن باقي القوات الألمانية في روسيا وألمانيا، ووضعته بين نيران الروس من الأمام ومن الأجناب والخلف في وقت واحد، ثم واصل استنزافه إلى أن استهلك مخزونه من الذخائر والطاقات، وشددت الحصارات عليه إلى أن استسلم من بقي منه دون قيد أو شرط خلال أشهر من المعارك الضارية التي لا رحمة فيها، وفي جبهة واحدة استسلمت قوة بلغت أعدادها ربع مليون جندي ألماني دفعة واحدة مع قيادة المعركة والجبهة.
كان العالم كله يتابع المعركة، ويحبس أنفاسه منتظراً النتيجة، فقد علقت أوروبا كلها مصيرها على نتيجة المعركة، وعلقت أمريكا مصيرها على نتيجة المعركة، وكذلك علقت اليابان والصين والهند الصينية والشرق الأوسط والأدنى مصيرها على النتيجة، فقد شارك في المعركة ملايين كثيرة من المقاتلين هم أهم وأغلب القوات الرئيسية في الجانبين.
ومن مفاجآت الحرب الوطنية الروسية في ستالين جراد إنتاج السلاح الصاروخي الرهيب المسمى أورغان ستالين كاتيوشا، والذي فاجأ الألمان بنوعه وقدراته ضد المشاة والمدرعات والآليات المعادية، وضمن تفوقاً روسياً ميدانياً.
حروب الأنصار
الشعبيين حروب المدنيين
كوماندوز المدن المحتلة هم الجبهة الثانية للحرب الوطنية ومواصلة القتال والحرب في ظل الاحتلال ومن داخل خطوطه ومناطق سيطرته، قوات سرية منتشرة وتتكاثر وتكبر داخل المناطق المحتلة، وتشن هجمات ضد قوى العدو، تنمو تدريجياً بين أوساط الشعب المقهور وقواه الطليعية والعسكرية السرية التي نقلت تمركزها من القلب الى الضواحي والغابات القريبة والأحراش ومدن الصفيح والأكواخ الشعبية التي تلف المدن الحديثة من كل ناحية، لتكون بمأمن من ملاحقة عيون العدو وعملائه.
معركة الشعب بعد تراجع الجيش
الخطة الوطنية البديلة (ب)
تضع القيادة الوطنية خطتها الدفاعية على أساس احتمالية وصول العدو إلى مناطق عديدة مؤقتاً، وسيكون على القوات الرئيسية الانسحاب والتراجع نحو أعماق البلاد لكي تنسل من بين أنياب الحصار العدواني المحتمل، وقبل فترة كافية تعمل على التحضير للخطة الاحتياطية المتمثلة في إعداد قوات سرية فدائية شعبية يتم تدريبها على حروب العصابات السرية ضد العدو بعد وصوله إلى المدينة والمنطقة مع تراجع الجيش الوطني الرسمي، وتحدد عدداً من القادة والكوادر المتخصصة في المهام العديدة الضرورية ليقيموا قيادة سرية بعيدة عن العدو وعيونه في مناطق مجاورة مخفية ومموهة بقواعد الأمنيات، وتدرب على قواعد الحروب السرية الخاصة، وتحدد لها قواعد تدريب وتأمين ومعسكرات سرية في مناطق معينة تكون قواعد لها، قد تكون غابة قريبة أو جبلاً أو حرشاً أو جزراً أو ريفاً وقرى ومزارع أو غيرها حسب ظروف كل منطقة وبلد.
قد تكون معركة الشعب أمام ظروف معقدة متنوعة مختلفة، منها:
1- أن الاحتلال لا يشمل كل البلاد، وإنما قسماً منها هو المحتل، بينما مازال الجيش والدولة الوطنية يسيطران على القسم الداخلي للبلاد، ويقودان الحرب الوطنية ضد الاحتلال والعدوان، وهذا النموذج هو النموذج الشبيه بالنموذج الروسي والسوفييتي واليمني الآن.
2- النموذج الآخر هو النموذج الجزائري، والفيتنامي، والجنوبي اليمني وعدن، والليبي، واللبناني، والفلسطيني. فهو نموذج احتلال كامل للبلاد تنهض الحركة الوطنية الشعبية للتصدي للاحتلال والعدوان من الصفر، بعد فترة من السيطرة الاستعمارية الكاملة وغير المباشرة عبر وكيل إقليمي أحياناً، وأبلغ النماذج المجسدة لذلك هو النموذج الفيتنامي.
3- سيطرة استعمارية جديدة عبر انقلابات عسكرية أو سياسية كولنيالية.
وفي هذ النموذج الأخير تنطلق الحركة الشعبية للقتال ضد نظام استبدادي مدعوم أمريكياً يمثل واجهة الاستعمار الجديد، ولا يقل قهراً عن المستعمر العسكري القديم الذي يضعه نيابة عنه بعد خروجه من البلاد ليمثل مصالحه، مثال ذلك نظام باتيستا في كوبا ونظام سوموزا في نيكاراجوا والجنرال بينوشيه في تشيلي ونظام نميري في السودان.
وتشن الحركة الوطنية الثورية كفاحها انطلاقاً من الغابات والجبال القريبة من المدينة أو من المدينة نفسها في هبات اجتماعية مسلحة مباشرة لإسقاط النظام الديكتاتوري، وأبلغ نموذج للثورة ضد الأنظمة هو النموذجان الصيني والكوبي بقيادة ماو تسي تونغ وفيدل كاسترو وتشي جيفارا.
4- المقاومة الشعبية في ظل خيانة الحكومة القائمة وتواطئها مع المحتل، هذا النموذج مثلته المقاومة الشعبية الإسلامية في لبنان وغزة.