الجديد برس : رأي
صلاح الدكاك
في الحديدة والساحل الغربي يقاتل مجاهدو الجيش واللجان بظهير شعبي متماسك متين ومؤطر، عدا عن بسالة وإيمان وعقيدة يقر بخوارقها من خبروا بأس رجال الرجال في مضامير الوغى، وما يتسرب منها بعدسات الإعلام الحربي إلى الشاشات، هو نزر من كثير بطولات ترفع قواعد مدرسة عسكرية يمانية أنصارية فذة لا نظير لها في قواميس العلوم العسكرية ومدونات الحروب عبر التاريخ.
لا جدوى من زحوفات الجرذان على الحديدة، ولا منطق لاستمرار العدو فيها سوى استرخاص تحالف العربان الزنيم لدم الارتزاق المحلي الجنوبي والشمالي، واسترخاص واشنطن لخزائن العربان وأمن رعايا مشيخاتهم، فإن كسبوا -كما أوجز سيد الثورة أبو جبريل- فالغنيمة لأمريكا، وإن خسروا فمغبة الخسارة على عاتق العائلات المالكة ومستقبل رعاياها ومشيخاتها.
يخسر تحالف العدوان غفلة مجتمعات الجنوب المحتل، ويرمي بثقله ـ بالتزامن ـ ليكسب غفلة مجتمعية مستحيلة في الحديدة، وفي رمال المسافة المتحركة بين جغرافيا تفلت من يده
وأخرى يسعى لبسط اليد عليها، يغرق، ويخسر موارد قوته البشرية القائمة على الارتزاق وتعبئة العصابات القاعدية والداعشية تحت دعاوى ذرائعية متضاربة (شرعية، جنوب، ديسمبريين وإصلاح؛…).
فضلاً عن أن مسار الاشتباك في البر المتاخم للمثلث المائي الأكثر حساسية في العالم، آيل لتقويض سكينة الاقتصادات الكونية، كما وأن يتحول إلى اشتباك إقليمي دولي غير معلوم التخوم، إذا ما اتسع، لا سيما مع ثبوت قدرة البحرية اليمنية والمدخلات الحربية الصاروخية والجوية الرديفة للجيش واللجان، على ترويض مسرح المواجهة بحراً وبراً وجواً، بما يكفي لتظهير عجز ترسانة العدو المتفوقة عن (الحسم الخاطف والآمن)، وزعزعة ثقة المجتمع الدولي بتباينات أطرافه، في جدوى مقامرة من هذا القبيل.
مجدداً نعيد التأكيد على أن الساحل الغربي وصولاً إلى الحديدة، هو حجر الزاوية في مشروع تحالف العدوان ومن ورائه أمريكا وبريطانيا والكيان الصهيوني، لاحتلال اليمن وتمزيقه، ولجهة تحقيق سيطرة مائية مطلقة تضع (الصين) تحت الإبط الغربي، وتنهي المخاوف الوجودية لإسرائيل المهددة بالتلاشي، وتتيح للامبريالية الغربية استعادة زمام المبادرة في عدوانها متعدد الأشكال على سوريا ولبنان والعراق وإيران، وتصفية القضية الفلسطينية كتحصيل حاصل.
باتت إسرائيل آمنة اليوم لجهة قناة السويس، للأسباب المعلومة، غير أنها تستشعر خطراً جدياً، وتكاشف به لجهة (باب المندب) الذي يمثل عنق المفتاح (السويس) الرئيس الواصل بين بحرين هما الأهم مائياً، وثلاث قارات هي مسرح الوجود الامبراطوري الامبريالي الغربي في الشرق والجنوب الشرقي للكرة الأرضية.
مخاوف الكيان الصهيوني إزاء المثلث المائي اليمني (الساحل الغربي، باب المندب والحديدة) قديمة، لكنها ترقَّت من مخاوف إلى تهديد مباشر مع اندلاع ثورة 21 أيلول/ سبتمبر 2014، وشروع صنعاء جدياً في استعادة السيادة الفعلية على خارطة يمنية كانت السيادة عليها صورية في عهد سلطة الوصاية التي أطاحت بها الثورة.
لهذه الحقيقة ـ التي أضحت اليوم رأي العين المجردة ـ ما يسندها تاريخياً، في أرشيف الاشتباك اليمني المديد مع موجات الغزو الأجنبي المتلاحقة منذ فجر التاريخ وصولاً إلى اللحظة الراهنة.
حين بزغت شمالاً الدولة اليمنية الحديثة (المتوكلية) من رحم الكفاح المسلح ضد الاحتلال العثماني وانتزاع استقلالها، خلال العقدين الأول والثاني من القرن الفائت، كان لزاماً عليها أن تخوض صراعاً مباشراً وغير مباشر ضد أطماع التاج البريطاني الذي يحتل جنوب اليمن، علاوة على (جزيرتي ميون، كمران)، ومعظم محافظة البيضاء اقتطاعاً من النطاق السياسي للدولة الشمالية المستقلة حديثاً.
جندت مخابرات بريطانيا عدداً من الشخصيات الجهوية الخائنة، كأدوات عملت من خلالها على زعزعة كيان الدولة طرية العظم وخنقها من جهة البحر عبر تجييش انتفاضات قبلية شمال شمالية، وبالأخص تهامية، استهدفت فصل الحديدة عن كيان الحكم المركزي الوطني في صنعاء (بين 1920 و1930). شمالاً أمكن لبريطانيا، خلال الثلاثينيات من القرن الفائت، سلخ (جيزان ونجران) وإلحاقهما بعسير كمدخلات جيوسياسية لدولة الوهابية الثالثة التي اجتاحت بمدد بريطاني حربي ولوجستي متطور البر التهامي وصولاً إلى مدينة الحديدة، وسط مقاومة شعبية ورسمية شديدة، لكن مفتقرة للسلاح والمؤونة الحربية كماً ونوعاً، ورغم أنها أفضت إلى دحر الحملة الوهابية عن المدينة الساحلية، إلا أن استعادة (جيزان ونجران وعسير) بدت شبه مستحيلة.
واكتفت صنعاء بانتزاع إقرار سياسي سعودي بـ(يمنية الأراضي المغتصبة) كحد أدنى ممكن في ظل صراع غير متكافئ، كما كبلت السلطات السعودية بخطام العودة لأصحاب الأرض كل 20 عاماً، بغية تجديد الاتفاقية المتضمنة والمؤطرة لهذا الإقرار.
غير أن السعي البريطاني الاستعماري لتقويض الكيان الطري للدولة الوطنية المستقلة، لم يهدأ، واستمر على هيئة حرب باردة استخبارية استخدمت بريطانيا (الإخوان المسلمين) كأداة ضاربة خلالها، فاستزرعت كوادرهم دعوياً واقتصادياً وسياسياً وعسكرياً، في بنية الدولة التي انتهجت سلطاتها مساراً شرقياً في علاقاتها الخارجية منذ استقلالها في 1918م، فوقعت أول اتفاقية تجارية مع الاتحاد السوفياتي، ووثقت صلاتها بمصر الناصرية عقب ثورة يوليو 1952م، كمتنفس إقليمي ودولي يصون استقلالية قرارها، كما قدرت.
لقد صبت مجموع العلاقات الخارجية للدولة اليمنية المباشرة وغير المباشرة (الشرقية السوفياتية والمصرية من جهة، والغربية البريطانية المنتجة للكانتونات النفطية الخليجية وأمريكا كوارثة لها من جهة مقابلة)، في إضعاف الكيان الرسمي لدولة الإمامة الوطنية، لتنفجر هذه التناقضات العلائقية في صورة صراع مباشر شرقي وغربي على النفوذ في اليمن، عقب انهيار سلطة الإمامة في 26 سبتمبر/ أيلول 1962م.
لم يدفع (جمال عبدالناصر) بعشرات الآلاف من الجيش المصري إلى أتون الحرب في اليمن، كرمى لعيون جمهورية وليدة، وفي المقابل فإن حلف أمريكا المؤلف من (السعودية، إيران الشاه، الأردن وإسرائيل)، لم يعلن حربه على اليمن، كرمى لعيون ملكية بائدة، وإنما لأمر آخر له صلة بحسابات النفوذ الجيوسياسي بين معسكرين غربي استعماري وشرقي تحرري، في إطار حرب باردة عالمية.
لقد اكتسبت ثورة مصر الناصرية شرعيتها الوطنية والقارية من (تأميم قناة السويس)، فواجهت عدواناً غربياً (بريطانياً، فرنسياً، إسرائيلياً) استمر لأسابيع، لكنها لكي تكتسب شرعيتها القومية ووزنها الدولي، كان لزاماً عليها أن تخوض حرباً استمرت لـ5 أعوام في اليمن، ولقي خلالها أكثر من 30 ألف جندي مصري حتفهم.
بكيدية خالية من اللؤم، يمكن القول إن الحاجة لتثمين (قرار تأميم السويس) لم تكن لتتحقق إلا ببسط النفوذ المصري الناصري على (باب المندب)، وعلى الضفة المقابلة، فإن ضم اليمن لمجموع الحيازات الجيوسياسية الوكيلة للغرب الاستعماري، كما وإصابة النزوع القومي الناصري الموالي للمعسكر الشرقي في مقتل، كان غاية استراتيجية بالنسبة لأمريكا كوارثة للنفوذ البريطاني بمشروعه الصهيوني الوهابي الوليد والدخيل في مركز العالم القديم.
لذا فإن ما يسمى نكسة 1967م لم تكن إلا تحصيل حاصل لهزيمة (عبدالناصر) في حربه الرئيسة والمحورية في اليمن التي وقعت في قبضة النفوذ الملكي السعودي الأمريكي، وظل علمها الجمهوري يرفرف، فالصراع لم يكن على الضفتين صراع يافطات وبيارق، وإنما صراع وجود أصيل وآخر طارئ، وقد أحسن (عبدالناصر) بإدراكه أهمية اليمن الفارقة فيه كجغرافيا، وأساء بتغييبه لليمن كإنسان وبنية اجتماعية ودور لصالح طغيان القيادة العربية المصرية في صنعاء وسلطتها المطلقة على القرار اليمني.
ثمة ثورة أصيلة ومقتدرة وعصامية اليوم في اليمن، وهي تعي قيمة الجغرافيا اليمنية وإنسانها معاً، وبالتكامل بين مكوني وجودها الحيوي هذين تقاتل لانتزاع استقلالها الذي تعي ـ كذلك ـ أن جدارتها في انتزاعه سيكون لها أثرها الاستراتيجي العميق على شكل الخارطة العربية والعالمية، كما ستفسح أفقاً للتكامل اليمني الإيجابي والندي مع مجموع الوجودات الأصيلة في المنطقة والعالم..
إننا نواجه في الراهن إنزالاً مائياً شبيهاً بـ(إنزال خليج الخنازير الأمريكي) في كوبا الثورة، وعدواناً شبيهاً بالعدوان الثلاثي على مصر الثورة، من حيث الوجهة الاستعمارية النازية لهما، مع فارق ضخامة الاستهداف والتحدي، وعلينا أن نثبت جدارتنا في المواجهة وأحقيتنا بأن نمسك بلا وصاية بـ(رأس الفرجار) الذي سيرسم شكل المنطقة والعالم..
علينا أن نبسط عرش استقلالنا على الماء لتدين لنا اليابسة.. وهذا هو التحدي الوجودي الذي تمثله بكثافة معركة الساحل الغربي والحديدة.